إبراهيم الأمين
يمر اللبنانيون بأصعب لحظاتهم. أزمة الثقة تنهش حياتهم السياسية، والقطيعة استحالت عداوة وأحقاداً، والتوترات تنذر بانفجارات، لا سقف لها أمنياً ولا اقتصادياً. والعناصر الخارجية المتدخّلة تعيش خصومات تنعكس سلباً على التجاذب الداخلي. وثمّة حاجة إلى مصالحات متنوّعة تتيح للبنان الحصول على حصته منها، فيخرج إلى السطح قليلاً، ربما لأجل التقاط الأنفاس قبل الغوص مجدداً في بحر همومه.
وإذا كانت الوصاية قد صارت لزاماً على واقع القرار السياسي، فهي مرّة منبوذة ومرات مرغوبة، وخصوصاً في حالة العجز، وهي حال اللبنانيين الآن. لكن الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، لأن الوصيّ إذا لم يُحسن الإدارة، يتحوّل إلى عبء في ذاته، وهو ما أصاب سوريا في سنوات حكمها لبنان، وما أصاب الولايات المتحدة أسرع من غيرها، وهو الداء نفسه الذي قد يصيب مَن بقي من أوصياء بحكم النسب أو القربى... و«اتفاق القاهرة» المُعلن عنه قبل يومين يحتاج إلى أكثر من أبوين يتمتعان بأهلية الرعاية: يحتاج إلى فناء يعيش فيه سالماً معافى، ويحتاج إلى مَن يمدّه بالدعم المطلوب حتى ينتزع ديمومة ولو لعقد ونصف العقد كما هي حال الوليد العجيب الذي سمّي «اتفاق الطائف». وإذا كان من الصعب إجراء المقارنة، إلا أن أبرز نتائج اجتماع القاهرة العربي أنها لامست الآتي:
أولاً ـــــ عودة التوازن العربي إلى حكم الملف اللبناني: سوريا من جهة، والسعودية أو مصر من جهة أخرى، والبقية وسطاء يجيدون التنقل بين الأطراف.
ثانياً ـــــ أقرّ المجتمعون أن فشل اللبنانيين في التوصّل إلى صيغة حكم متوازنة، يعني ترك أمر الحل لغيرهم، ولمَن بيده زمام الشرعية الخارجية والدعم والاحتضان.
ثالثاً ـــــ إن صيغة الاتفاق وبنوده تعني تجاوز الأطراف العربية مبادئ الدستور اللبناني بأكثر ممّا كان متوقّعاً. وإذا كانت سوريا قد تعرّضت للتأنيب سابقاً، لكونها دعمت تعديل الدستور لاختيار رئيس للجمهورية أو التمديد له، فإن العرب باتوا يستندون إلى هذه السابقة، ويجعلون أمر تعديل الدستور حالة عادية، ما يوحي عملياً إلغاء الأسباب المانعة لهذا التعديل.
رابعاً ـــــ تجاوز العرب مرحلة وضع الإطار العام للاتفاق، بل دخلوا في التفاصيل وخصوصاً تلك التي تتعلق بالتوازنات الداخلية. وهم عندما يتحدثون عن حل يمنح رئيس الجمهورية وزناً إضافياً، فإنهم كمَن يقرّ بأن الوضع الخاص برئاسة الجمهورية كما ورد في اتفاق الطائف لم يعد صالحاً، وأن ما يرفض المسلمون، وخصوصاً السنّة منهم، إقراره خطياً، يجعله العرب قائماً على الأرض، من خلال منح رئيس الجمهورية حصّة وزارية تتيح له التحكّم في مجلس الوزراء، وتعيده لاعباً أساسياً، يستطيع أن يختار كتلة دون الأخرى ويتحكّم في كل شيء، وهذا الوزن الإضافي أعطي محصّناً بدعم خارجي ودولي يمنحه الحصانة في وجه الأطراف الداخليين.
خامساً ـــــ إن البحث في قانون الانتخاب على هذا المستوى يعني إقراراً من هذه الجهات بأن ما عُمل به سابقاً لم يعد صالحاً، وبالتالي فإن أي تغيير على مستوى قانون الانتخاب سيكون مدخلاً لصياغة الإرادة السياسية للبلاد على نحو مختلف عمّا هو قائم. وفي هذا تجاوز كبير للمجلس النيابي، بوصفه المؤسسة المنتجة لقانون الانتخاب، وفيه لامبالاة غير عادية بكل الآخرين من أصحاب وجهات النظر أو المصالح أو التمثيل الذي تعرّض للإقصاء بفعل ما تعاقب من حكومات ومن قوانين انتخابية.
ومع ذلك، فإن الأمر يظل رهن الآلية التطبيقية، وفي هذه الحالة، تملك الجامعة العربية آلية نظرية سهلة، تقول بانتخاب الرئيس أولاً، ثم الانطلاق في استشارات نيابية تحدد اسم رئيس الحكومة، ثم تأليف الحكومة التي تقرّ من جانبها قانون الانتخابات الجديد. لكن هذه الآلية تتطلّب اتفاقاً سياسياً مسبقاً، وهو الاتفاق الذي طالبت به المعارضة طيلة الفترة السابقة، والذي رفضته الموالاة بحجّة أنه تكبيل للدستور وللرئيس الجديد، علماً بأن هذه الموالاة تواجه اليوم مأزق إقرار المؤتمر الوزاري العربي ومن خلال «اتفاق القاهرة» بشمولية الحل لا بتجزئته، ما يعني أن الموقف النهائي سيكون رهن التفسيرات التي سيحملها موسى إلى القادة اللبنانيين، وفيها أجوبة مفترضة عن الأسئلة الآتية:
ـــــ هل انتخاب رئيس الجمهورية وفق الدستور يفرض المرور بحكومة الرئيس فؤاد السنيورة أم يمكن إنجاز الانتخاب من خلال المجلس وتفسير المادة 74؟
ـــــ هل إسقاط حق «الفيتو» في الحكومة، يعني تساوي حصص المعارضة والموالاة والرئاسة، وفق منطق المثالثة، أم هناك عودة إلى النسب والحصص على أساس الكتل النيابية؟
ـــــ هل يظل الكلام على قانون الانتخاب عاماً، أم يصار إلى تحديد الاقتراح بالقضاء أو بمشروع لجنة فؤاد بطرس، وخاصة أن بيان «المصدر القيادي» في 14 آذار أمس قال إنه محل جدل، بينما كان النائب سعد الحريري قد قال في اجتماعه الشهير بالرئيس نبيه بري وفي حضور وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير إنه مع القضاء؟
في انتظار ما سوف يحمله موسى من توضيحات، فإن الصورة القائمة الآن يشوبها الحذر الشديد. فريق 14 آذار أقدم على وضع تفسير مسبق لفكرة حكومة الوحدة الوطنية لن تقبل به المعارضة، والمعارضة حذّرت بلسان الناطق باسمها العماد ميشال عون من اللعب على الكلام. ولذلك، فلا أحد يجرؤ الآن على أكثر من الترحيب بالمبادرة، وهو موقف يظل في إطار الاستهلاك الكلامي والإعلامي، الأمر الذي يناقض الحاجات الملحّة للناس إلى حل جدي قابل للحياة. إلا أن الأقسى هو ما في الذاكرة من تجارب سوداء، حيث تخرج الشياطين من التفاصيل ومن التفسيرات وتحطّم كل شيء.