جان عزيز
رغم الانكفاء الملحوظ الذي مارسته بكركي طيلة الأسابيع الماضية، وخصوصاً في موضوع الاستحقاق الرئاسي وعلاقتها بالقوى السياسية المسيحية الأساسية، لا تزال التساؤلات تلاحق الصرح البطريركي، عن الموقف الذي سيرسو عليه من الأزمة الراهنة. وفي هذا المجال، بات معلوماً ومؤكداً أن بكركي تعيش هذه الأيام مرارة مزدوجة. الأولى نتيجة تورّطها مرة جديدة في مسألة اللوائح الإسمية للمرشحين الرئاسيين، مع ما انتهت إليه مرة أخرى أيضاً من فشل ونكسة للاستحقاق والبلاد والمسيحيين وللصرح نفسه، ومرارة ثانية نتيجة انعكاس تلك التطورات على علاقاتها بالقوى المسيحية الأساسية، وفي طليعتها العماد ميشال عون.
باختصار، ثمّة انطباع في أوساط الصرح، أن الحركة السياسية التي استدرجت بكركي إلى زواريب الانتخاب الرئاسي، انتهت إلى خسارة مزدوجة للموقع البطريركي. خسارة السعي إلى ملء الموقع الأول للمسيحيين في الدولة، وخسارة علاقة التنسيق والتعاون والتناغم مع الممثل الأول للمسيحيين في الوطن. ويعترف بعض أوساط الصرح بأن مسؤوليات هاتين الخسارتين، قد لا تكون متوازية ومتكافئة، إذا ما حاول أحدهم توزيعها بعدالة. فبمعزل عن تاريخية العلاقة بين الطرفين، تتذكر الأوساط نفسها أن عون كان صريحاً وصادقاً في علاقته مع الصرح حيال مسألة الرئاسة. حتى إنه أسدى إلى بكركي نصيحة علنية، بعدم الدخول في لعبة الأسماء. وعند إحساسه بأن الضغوط على صاحب الغبطة باتت أكبر من أن تجعله يستمع إلى نصيحته، أسدى إليه نصيحة أخرى، بألاّ يجعل نفسه في المرتبة الأولى، بحيث يضع هو أسماء المرشحين ويرفعها إلى من يختار منها، بل أن يحافظ على موقعه الأعلى، بحيث يضع سواه الأسماء وتُرفع إليه ليحسم ويختار. لكن الأوساط تسارع إلى التأكيد أن هذا الطرح سقط نتيجة خوف بكركي من أن يؤدي اعتماده إلى كشف «ميولها الرئاسية» بوضوح. وهذا ما أسهم، مع غيره من الأسباب، في إسقاط كل النصائح، وفي السير بعيون مفتوحة نحو الحائط.
بعد كل تلك السيرة، تجد بكركي نفسها مرة ثانية، في غضون اليومين المقبلين، أمام فرصة ثانية لامتحان علاقتها بالرابية، ولامتحان ما أمكن استخلاصه من العبر والدروس والأمثولات. فغداً يصل إلى بيروت الأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى، حاملاً المبادئ العامة والخطوط العريضة لمشروع الحل العربي المعتمد في اجتماع القاهرة. وإذ يطلق موسى جولته، ستكون محطته البطريركية محكومة حتى الهاجس هذه المرة، بعلاقة بكركي ـــــ الرابية من جهة، وبسوابق المبادرات الماضية وموقف كل من «البطريركين» منها. وما سيزيد هذا الهاجس، أن الرابية ستحمل أيضاً وأيضاً في وجه موسى، أجندة لبنانية ميثاقية وفاقية، طالما تنكّبتها بكركي ومثّلت صلب خطابها السياسي الوطني، وفي طليعة هذه الأجندة نقاط أربع:
أولاً، قانون الانتخابات النيابية الجديد. ففي حين اكتفى بيان القاهرة بالدعوة إلى بدء العمل على إعداد هذا القانون، بعد انتخاب الرئيس وتأليف الحكومة، سيتمسك العماد عون بتوضيح هذه المسألة، إن لجهة الآجال الزمنية المحددة والنهائية لإقرار القانون المذكور في صيغته النهائية، أو لجهة مضمون هذا القانون ومدى تطابقه مع ما أجمع عليه اللبنانيون بالوقوف خلف بكركي، في المطالبة باعتماد القضاء دائرة انتخابية. فهل يمكن سيد الصرح أن يتساهل في هذه المسألة؟
ثانياً، تأليف الحكومة المقبلة. فبيان القاهرة ينص على عدم إعطاء نصاب القرار أو التعطيل لأي من طرفي الصراع. وهو نص يحمل أكثر من تأويل أو تفسير وقراءة. وفي كل حال، فإن المنطق البنيوي للتوازن المطلوب حكومياً، يقتضي تطبيق مبدأ الندّية والتكافؤ والتعامل بالمثل. فإذا لم تحظ المعارضة بالقدرة على التعطيل، وجب حجب القدرة نفسها عن الموالاة. وإلاّ فإعطاؤها للاثنين. وهذا أساس مفهوم حكومة الوحدة الوطنية، التي جعلتها ثوابت بكركي من أولوياتها، منذ 6 كانون الأول 2006. فهل تتراجع عنها اليوم؟
ثالثاً، الصوت الوازن لرئاسة الجمهورية. هل يكون ظرفياً آنيّاً موقّتاً عابراً؟ أم يتحوّل ثابتاً دستورياً ميثاقياً؟ فريق السلطة يرفض تثبيته، فيما مصلحة الرئاسة كموقع أن يثبت نصّاً مكرّساً. وهذا ما تطالب به الرابية، فهل يعقل أن تظهر بكركي، مرجعية الرئاسة روحياً، تمسّكاً أقل به؟
وتبقى المسألة الرابعة، في المقاربة الإصلاحية الشاملة للنظام اللبناني، بحيث يظل مرتبطاً خلقياً وعضوياً بضابط خارجي، ويتحوّل تلقائي الحكم وذاتي الإدارة، وذلك عبر ما سمّته بكركي تقليدياً، سلّة الإصلاحات والتطويرات المطلوب إدخالها على دستور الطائف. وهو ما قد يكون لبنان أمام الفرصة الأخيرة لتحقيقه. فهل تسكت بكركي عمّا كتبته مراراً، منذ مذكرتها الشهيرة إلى رفيق الحريري قبل عقد كامل؟
زوار بكركي أمس، خرجوا بتفاؤل حيال النقاط المذكورة، وحيال الاتّعاظ ممّا كان والاحتياط لما سيكون. حتى أن سيد الصرح بدا ميّالاً إلى صيغة 10 وزراء لكل طرف. وفي كل حال، لم يظهر سوى التريث في انتظار عمرو موسى. فهل ينجح المسعى العربي في إعطاء الدروس، أكثر من المساعي الغربية، ولو من دون تحقيق أهدافه؟