strong>جوان فرشخ بجالي
رقم قياسي جديد لبيع القطع الأثرية في المزادات العلنية يفتح باب النقاش واسعاً على ملكية التحف الأثرية. ففي حين يرى فيها البعض استثماراً لثرواته، يتناسى الطرف الآخر أنه يروّج لسرقة الآثار غير المشروعة

57 مليون دولار!
57 مليون دولار هو رقم قياسي جديد للقطع المعروضة في المزادات العلنية. والتحفة هذه المرة ليست لوحة لكبار الرساميين، بل منحوتة سومرية يبلغ طولها 8 سنتيمترات فقط (!) ترمز إلى إلهة الخصوبة والحرب عند السومريين: إينانا.
ويفيد خبراء دار سوذبي (Sotheby) للمزادات العلنية أن «عمر التحفة 5000 عام وقد عثر عليها في أوائل القرن الماضي في موقع أثري على مقربة من بغداد، وهي نادرة الوجود. فقلما عثر على تماثيل تمثل إينانا في وجه أسد». كل تلك المعلومات تزيد عملية البيع «إثارة» وتحفز عشاق جمع التحف الأثرية على الشراء، لكن أحداً في دور المزادات العلنية لم يكن يتخيّل أن قيمة البيع قد تصل الى هذه المبالغ، بل تراوحت التقديرات بين 14 و25 مليون دولار أميركي فقط. ولكن، ما الذي حثّ «عاشق» التحف الأثرية البريطاني الجنسية على دفع 57 مليون دولار لقاء هذا التمثال الذي يطلق عليه اسم «أسدة غينول» (Guennol Lioness)؟ سؤاليبقى الجواب عليه تكهناً، إذ لم يعرف بعد اسم المشتري. ولكن يمكن تحديد نتائج عملية البيع هذه على مختلف الأصعدة: تداول أسعار القطع، الإقبال على الشراء، التزوير والتهافت على السرقة.
فكلّ شهر تعرض آلاف القطع الأثرية للبيع في المزادات العلنية في كلّ من أوروبا وأميركا، وكل تلك القطع مستخرجة من باطن دول يطلق عليها الغرب اسم «بلدان المنشأ». وتلك البلدان هي الأرض التي عاشت عليها قبل قرون أكبر حضارات العالم القديم: دول البحر المتوسط والهلال الخصيب ودول شرق آسيا. وكانت كل هذه الدول في القرون الماضية خاضعة لاحتلال أو انتداب من الدول الغربية التي استخدمت سلطتها السياسية لامتلاك القطع الأثرية، ومن ثم نقلها إلى بلدانها وعرضها في المتاحف. وتعدّ تلك الصالات اليوم بمثابة زيارة «وهمية» لدول بعيدة والتعرّف على حضاراتها. الحقيقة أن تلك الدول أبرمت الاتفاقات الدولية بطريقة لا يحق فيها «لدول المنشأ» المطالبة بالآثار التي تم «امتلاكها» قبل عام 1970، أي قبل إبرام اتفاقية اليونسكو ضد «الاتجار غير المشروع بالقطع الأثرية». وهذا ما يسمح للأفراد باقتناء الآثار، ولصالات العرض ببيعها في المزادات العلنية وللمتاحف بعرضها. فكل من يريد بيع تحفة أثرية اليوم يجب أن يمتلك أوراقاً ثبوتية تؤكد أن القطعة المكتشفة قبل 1970 هي جزء من مجموعة مقتنيات أثرية.
ويتوقع تجار الآثار، الذين يقدمون دائماً لزبائنهم كامل الأوراق الثبوتية المطلوبة، أن تشكل عملية بيع «أسدة غينول» هذه قفزة نوعية في المبيعات لهذه السنة. فبالنسبة إلى علي أبو طعان مثلاً، وهو مالك إحدى أكبر صالات بيع الآثار في نيويورك وجنيف، يعدّ «شراء القطع الأثرية استثماراً رابحاً جداً، فنسبة الربح بسعر القطعة كانت تزيد سابقاً بمعدل 7% سنوياً، أما الآن فمن الصعب تحديد ذلك». ولكن ما لم يحدده أبو طعان هو كمية القطع المزوّرة المطروحة للبيع في الأسواق ولا كيفية التأكد من أصالة القطعة المشتراة، مع العلم بأنه يمثل أمام القضاء الأميركي بأكثر من تهمة «بيع قطع أثرية مزوّرة بأسعار تفوق المليون دولار وتقديم أوراق ثبوتية بأسعارها»!
مما لا شك فيه أن عملية البيع هذه ستزيد الطلب على التحف الأثرية، ولإرضاء الزبائن وتلبية طلباتهم ستزيد كمية التزوير وستتقن باحتراف أكبر، كما أن عمليات النهب والسرقة ستزيد أيضاً، وخصوصاً في العراق، أرض «أسدة غينول»، الذي تتعرض آثاره إلى عملية سرقة واسعة بدأت مع الحرب ولا تزال، علماً بأن خطر النهب لا يتوقف على العراق، فاليوم قطعة سومرية وغداً قد تكون مصرية أو فينيقية أو يونانية... وما هذه الأسعار الخيالية إلا صرخة عالية لسارقي الآثار، صرخة مفادها «انهبوا الآثار ونحن نشتريها بأغلى الأسعار»!

أسدة
غينول


يطلق على التحفة الأثرية التي بيعت في سوذبي بـ57 مليون دولار أميركي اسم «أسدة غينول»، تيمناً بمالكها. فهي واحدة من مجموعة أثرية كبيرة يملكها محترف جمع القطع الأثرية أليستر مارتن، أميركي من أصل بريطاني من بلاد الغال. وكان مارتن قد أطلق على مجموعته اسم غينول أي مارتن في لغة بلاده الأصلية. وكان قد اشترى القطعة من تاجر آثار في نيويورك سنة 1948 حينما كان يؤسس لمجموعته. وبعد وفاته، «أعارت» العائلة القطعة، وواحدة أخرى مماثلة لها ولكنها تمثل ذكراً وليس أنثى، إلى متحف بروكلين لعرضها في إحدى قاعاته المخصصة لحضارات بلاد ما بين النهرين.