نقولا ناصيف
سواء نجح الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، في الأيام الفاصلة عن جولته الثانية من المشاورات في الموعد المبدئي الأربعاء المقبل، في جهوده العربية أم لا، فإن الجانب الداخلي في الأزمة بات لا يقل صعوبة وتطلّباً. بذلك تبدو مهمة موسى أكثر تعقيداً بعد تداخل المحلي بالخارجي في الأزمة، وبات عليه حل كل من الوجهين بطريقة مختلفة عن الأخرى.
فقائد الجيش العماد ميشال سليمان لا يزال المرشح التوافقي الوحيد لانتخابات رئاسة الجمهورية. وليس بين الأفرقاء المحليين مَن يجهر بالتخلي عن ترشيحه له أو طرح اسم آخر. وهو أمر ينقض إلى حدّ بعيد الفكرة القائلة بأن مرور الوقت يستنزف ترشيح سليمان ودوره إن لم يضعفه. فالرجل لا يزال قائداً للجيش يقف في منتصف الطريق بين الموالاة والمعارضة من غير انحياز. وترشيحه للرئاسة انتقل من خيار ملتبس عندما طرحته المعارضة أولاً ثم رشحته قوى 14 آذار على نحو مفاجئ، ثم تبناه الفريقان ظاهراً، إلى خيار عربي لا سابقة له بتحوله بنداً أول ومستقلاً في مبادرة وزراء الخارجية العرب. وبعدما اعتاد العرب تأييد رئيس منتخب لدعم شرعيته والحض على الاعتراف بها وتأييد خطواته، كحال الرؤساء الياس سركيس عام 1976 وأمين الجميل عام 1982 ورينيه معوض عام 1989، أيدوا مرشحاً للرئاسة لم يحز بعد شرعيته الدستورية.
مع ذلك لا تكمن المشكلة فيه. لا استبعاد قائد الجيش يذلل العقبات، ولا بقاؤه مرشحاً يزيد منها. بل بات مرشح الإجماع للاستحقاق الرئاسي، فيما الاستحقاق نفسه أضحى على هامش الأزمة. وبات يصحّ في سليمان ما قاله قبل 48 عاماً الرئيس فؤاد شهاب مساء 20 تموز 1960 عندما أرغمه 80 نائباً على العودة عن استقالته من رئاسة الجمهورية. قال يومذاك لجورج نقاش: «ليس أنا مَن انتخب اللبنانيون. أنا لا أمثّل سوى استحالة اتفاقهم على انتخاب آخر».
ولأن من المتعذّر انتخاب مرشح آخر، لا مرشحي قوى 14 آذار ولا الرئيس ميشال عون، يظل استمرار سليمان مرشح إجماع خير معبّر عن كونه يمثل استحالة اتفاق الموالاة والمعارضة على رئيس آخر. مع ذلك كله، لا يمكن انتخابه قبل الاتفاق على التسوية السياسية الموازية للاستحقاق الرئاسي. وإذ حاول الوزراء العرب ربط انتخاب الرئيس الجديد بالتفاصيل الأخرى في الأزمة السياسية والدستورية، على نحو إقرار مبادئ عامة للتفاصيل الأخرى تلك بغية وضع حدّ للفراغ الدستوري، أعادت المعارضة المشكلة إلى أصلها، وهو عدم فصل انتخاب قائد الجيش عن سائر بنود التسوية، وفي الوقت نفسه اعتبار انتخابه جزءاً من السلة المتكاملة غير المجتزأة. جارى موسى، وكذلك المبادرة العربية، التزامن في الاتفاق على البنود، لا التزامن في تنفيذها.
في حصيلة الأمر بدا لموسى أن كلاً من الموالاة والمعارضة يريد أن يأخذ من الآخر في التسوية المحتملة ما لا يمكن التاريخ أن يعطيه إياه.
ورغم أن موسى لم يكشف عن أي تقدّم خرج به من الجولة الأولى من مشاوراته، فإن المطلعين على مداولاته يشيرون بدورهم إلى أنه لم يغادر بيروت خالي الوفاض. وتالياً لم يلمس موسى، بحسب هؤلاء، أن الأفرقاء اللبنانيين تعاملوا معه بسلبية وتعنّت، أو تعمّدوا عرقلة مهمته تفادياً لإقرارهم علناً برفض الخطة العربية. إلا أن المطلعين إياهم يشيرون كذلك إلى جدية مبادرة وزراء الخارجية العرب التي لا تنظر إلى المشكلة اللبنانية في نطاقها الضيق والمحلي البحت، كما يصوّر الأفرقاء اللبنانيون نزاعهم على حكومة الوحدة الوطنية. بل تدرج المبادرة العربية المأزق اللبناني في سياق الوضعين العربي والإقليمي، وفي سياق نظرة الوزراء العرب إلى الاستقرار في المنطقة، الأمر الذي حمل الرئيس المصري حسني مبارك على رفع وتيرة مخاطبة السياسيين اللبنانيين بما يشبه الإنذار بتركهم لوحدهم يتخبطون في مشكلاتهم.
واستناداً إلى ما يقوله المطلعون إياهم، وهم من الدائرين في فلك الدبلوماسية العربية في بيروت، رسم الأمين العام للجامعة العربية لدى مجيئه إلى بيروت سقف مهمته، وهو أن المبادرة العربية، بعدما أقرت بإجماع الوزراء العرب في القاهرة، باتت وثيقة عربية ـــــ لبنانية برسم التنفيذ أكثر منها مادة سجال وتجاذب سياسي داخلي، وخصوصاً أنها أخذت في الاعتبار عند صوغ البنود الثلاثة مطالب الأفرقاء المحليين جميعاً وسوريا. وأضافت إلى البند الثاني المتعلق بتأليف حكومة الوحدة الوطنية، وبموافقة سوريا، ما لم تفضِ إليه حوارات اللبنانيين وتفاوضهم في ما بينهم، والمقصود بذلك حجب مقدرة أي من الطرفين على امتلاك حق التعطيل داخل مجلس الوزراء. إلا أن موسى لمس في سياق جولاته المكوكية الحاجة إلى إبداء مرونة في مقاربته ومحاوريه اللبنانيين المبادرة العربية وسبل تنفيذها، فخاض وإياهم في اقتراحات هامشية لم تدخل في الأساس في صلب بنود المبادرة، ولا في التكليف الذي ناطه به وزراء الخارجية العرب، وهو مناقشة البنود الثلاثة. سمع اقتراحات بعضها قال باجتماعات حوار ثنائية، وأخرى رباعية، وثالثون قالوا بدعوة هيئة الحوار الوطني إلى الالتئام مجدداً. وأبرز إصغاؤه إلى هذه الاقتراحات حيزاً من الأفكار الملائمة لوضع المبادرة العربية موضع التنفيذ.
ووفق المطلعين أنفسهم، لم يتوهم الأمين العام للجامعة العربية تنفيذ المبادرة من لقاءات الأيام الأربعة في العاصمة اللبنانية. ورغم أنه مفطور على المبالغة في الآمال كما في قوله، لدى وصوله في اليوم الأول، إنه يأمل في حضور جلسة انتخاب الرئيس الجديد السبت (الفائت)، يدرك موسى بفعل إلمامه بالجدل اللبناني وتقلّباته أن عليه أن يحمل إلى دمشق وطهران والرياض الخلاصات التي قدّمها له الأفرقاء اللبنانيون. الأمر الذي برّر أن تكون بيروت المحطة الأولى، لا الحاسمة المقرّرة ولا الأخيرة، في مهمة شائكة تحتاج بدورها إلى جدل شائك مع كل من دمشق والرياض، حتى وإن كتم موسى ـــــ يقول هؤلاء المطلعون ـــــ أن عليه العمل أيضاً على إنجاح انعقاد القمة العربية في دمشق في نهاية آذار المقبل.