طرابلس ـ عبد الكافي الصمد
«لم نشهد أجواءً باردة كهذه في طرابلس منذ سنوات عدة». عبارة بات يردّدها كثير من كبار السنّ في عاصمة الشّمال، وهم يعلّقون على «نسمات» الهواء القارس التي هبّت على المدينة في الأيّام الأخيرة، والتي دفعت معظم أهاليها إلى التزام بيوتهم، بعدما بات التجوّل ليلاً مغامرة لا يُقدم كثيرون عليها.
وأدى تدنّي درجات الحرارة ليلاً، إلى ما دون الصفر أحياناً، إلى خلو معظم شوارع طرابلس، ابتداءً من التاسعة، من المارة والسيّارات التي باتت حركتها خجولة للغاية في هذا التوقيت، حتى بدا الأمر كأنّ حظر تجوّل ما قد فُرض عليها، وهو وضعٌ دفع غالبية المقاهي والمطاعم، إلى «تشغيل» معدّات التدفئة لديها التي تعمل على الكهرباء أو المازوت أو الغاز أو الفحم وغيره، من أجل اجتذاب الزبائن الذين باتوا قلّة، فيما اضطرت المقاهي والمطاعم التي تفتقر إلى هذه «الحوافز» إلى إغلاق أبوابها مع هبوط ساعات الليل الأولى.
إلا أنّ هبوب الرّياح الشّمالية الشّديدة البرودة، الآتية من تركيا واليونان، التي يتوقع أن تستمر حتى الجمعة المقبل، جعلت شريحة واسعة من المواطنين، وخصوصاً ذوي الدّخل المتدني، إلى الاستعانة بما تيسّر لهم من إمكانات ووسائل من أجل جلب قليل من الدفء.
أخبار كثيرة تُروى في المدينة عن عجز أكثرية أهلها عن مواجهة موجة البرد، فبعدما كان قسم كبير من أهالي المناطق الريفية الشّمالية ينزلون إليها شتاء، اتّقاءً لبرد المناطق الجردية، أو توفيراً للنفقات، باتت هذه «المعضلة» تقيم اليوم في طرابلس، شأنها في ذلك شأن بقية المناطق الأخرى. لا بل إنّ بعضهم لم يتوان عن القول إنّ «البرد الموجود اليوم في طرابلس، ليس موجوداً في بعض المناطق الجبلية!».
«أعرف عائلات كثيرة تتدثر بالفراش باكراً، أو تبقى فيها أغلب ساعات اليوم، طلباً للدفء، ولعجزها عن تأمين نفقات مواجهة البرد»، يقول أشخاص كثيرون يشرحون واقع الحال، فيما يلفت آخرون إلى أنّ عائلات كثيرة تضطر للاستدانة من أجل شراء قارورة غاز، أو كرتونة فحم، بينما عمد آخرون إلى «التحايل» والتعليق على شبكة التيّار الكهربائي طلباً للدفء.
في موازاة ذلك، تشهد طرابلس شتاء هذا العام تراجعاً كبيراً في تركيب أجهزة التدفئة التي تعمل على الطاقة الكهربائية، وقد انسحب عليها ذلك من تراجع مسبق شهده فصل الصيف، عندما تراجع أيضاً تركيب مكيفات الهواء البارد، الأمر الذي يفسّر عمق الأزمة الاقتصادية التي تجعل الكثير من المواطنين يتردّدون قبل الإقدام على خطوة باتوا يصفونها بالـ«كمالية».
محمود مقصود، أحد أصحاب محال تركيب أجهزة التدفئة والتبريد في محلة باب الرمل في طرابلس، يشير إلى أنّ «تراجعاً كبيراً شهده عملنا هذه السنة، حيث اقتصر عملنا على الصيانة، إضافة إلى طلب أغلبية زبائننا نقلهم أجهزة التدفئة أو التبريد داخل المنزل من غرفة إلى غرفة، أو من مكاتبهم إلى المنزل وبالعكس، عوضاً عن شرائهم أجهزة جديدة، الأمر الذي انعكس جموداً في سوق بيع هذه الأجهزة، التي كانت تشهد في السّابق نشاطاً ملحوظاً كنّا نعوّل عليه كثيراً».
في مقابل ذلك تكاثر انتشار ظاهرة قديمة ـــــ جديدة في طرابلس، حيث يقبل مواطنون في الأحياء الشعبية والفقيرة فيها، وفي ضواحيها، وكذلك أصحاب الورش الصّناعية الصغرى والمتوسطة، على استعمال زيت السيّارات المستعمل (الزيت المحروق)، بعد مزجه بكميّات بسيطة من الكاز، ليصبح قريباً حسب رأيهم من مادة المازوت، لكن بمواصفات سيئة ورديئة للغاية، وهو ما يبرز من خلال تصاعد دخان أسود داكن من قساطل المدافئ التي تعمل على المازوت، أو من قساطل الورش والمصانع التي تستعمله لهذه الغاية، إضافة إلى خروج مادّة صمغية من المداخن المذكورة، ما يرتّب انعكاسات صحّية وبيئية خطيرة لاحقاً، من غير اتخاذ أيّ خطوات للتوعية والتنبيه من الجهات المعنية.