علي السقا
لا يكاد يخلو شارع في العاصمة بيروت، وضواحيها، من أطفال متسوّلين أو يبيعون بضائع لا قيمة لها. رغم ذلك، ليس في لبنان إلا جمعية واحدة تهتم برعاية هؤلاء الأطفال، تفتقر منذ خمس سنوات إلى المعونة الحكومية الوحيدة التي تتلقّاها بسبب التأخير في إعداد الموازنات

من نافذة مبنى على سفح جبلي مطلّ على بيروت حيث الأبنية المتفاوتة بضخامتها تفاوت طبقاتها الاجتماعية، تبدو لك تلك المدينة ساكنة ووادعة فيما تصدح شوارعها وبيوتها بألف قصة وقصة. هنا، وبين ذراعي «بابا جان»، فتاة لم تتجاوز السنتين من العمر لا يخوّلها صغر سنها التعبير عما حلّ بها. تهجّئ أسماءً لأطفال يكبرونها سناً، وألماً أيضاً، وضعت صورهم داخل إطار على أحد رفوف مكتبة مدير «الجمعية الإنجيلية للرعاية الاجتماعية» في الكحّالة.
فبعد عام واحد على ولادة نورا (اسم مستعار)، قدّر لها أن تتحوّل إلى عائلة غير عائلتها لأن أبويها، وهما من التابعية الهندية، أدخلا السجن. ونورا (دلوعة الجمعية) كما تصفها إحدى الموظفات هي الصغرى بين أشقائها الثمانية لكنها بالطبع ليست الحالة الأولى. علي عبد الله، ابن الثانية عشرة، لم يحظ بالفرصة ذاتها. الطفل الذي أصابه اليتم باكراً في كردستان اجتاز الحدود السورية ليعمل معاوناً لبائع يانصيب في شارع الحمرا. يجيب بلغه عربية ركيكة عن الأسئلة فيما يتصبّب وجهه عرقاً رغم قساوة البرد. يُمضي في لبنان شهرين متتاليين سائحاً في النهار وهارباً في الليل من أعين دوريات الشرطة، يغادر بعدها إلى بلده حاملاً ما جمعه من مال، وحلمه أن يصبح خياطاً عندما يكبر، كما أجاب على عجل.
بين نورا وعلي آلاف القصص المماثلة لأطفال لا يعرفون سبباً للحياة القاسية التي يعيشونها، وخصوصاً في لبنان الذي يفتقر إلى الجمعيات القادرة على رعايتهم في ظلّ غياب دعم جدي من الدولة والوزارات المختصة... إذ ليس هناك إلا جمعية واحدة تُعنى برعاية أطفال الشوارع وتأهيلهم، هي الجمعية الإنجيلية للرعاية الاجتماعية حيث التقينا عدداً من الأطفال.

طفولة ضائعة

كثيرون يدركون تماماً أنهم أولئك الأطفال المسمّون «أطفال الشوارع» كما تصف سمر (8 أعوام) نفسها. تلوذ بالصمت عند سؤالها عن السبب الموجب لإقامتها هي وأختيها اللتين تصغرانها سناً في بيت الرجاء... لتعود وتجيب «يمكن امي ما بدا يانا نكون معا».
أمّا حسن (12 سنة) فيذكر كيف هرب أبوه الى سوريا أثناء حرب تموز، وكيف لحق به هو وأمه حيث وجداه متزوجاً امرأة أخرى، ما اضطرّ الأم إلى أن تسمح لولدها بالعمل مقابل 100 ألف ليرة شهرياً ليتمكن من إعالة نفسه. عدد كبير من «أطفال الشوارع» لا يملك هويات لبنانية، إما لأن الأبوين من جنسيات أجنبية أو لأن الأم لبنانية والأب أجنبي. يروي علاء (14 سنة) من التابعية المصرية كيف أنه لم يتمكن من متابعة دراسته متوقفاً عند صف البريفيه لأنه لا يملك هوية لبنانية تخوّله دخول الامتحان الرسمي.
تحت وطأة هذا الواقع المرير انكفأت أحلام هؤلاء الأطفال، وبات جلّ ما يسعون إليه هو حفر مكان لهم في أي عائلة. فهنا (7 سنوات) تحلم «انو أتزوج وجيب ولاد لاهتم فيهن لحتى بس يكبرو جيبن لهون عهيدا البيت يلعبوا وينبسطوا متل ما انا عم بلعب». وسمر تريد أن تصبح معلمة «تهتم بالأولاد الموجودين على الطريق». أمّا علاء، الذي يتقن الإنكليزية على حد قوله، فحلمه الوحيد هو الذهاب إلى أميركا للعمل مرشداً سياحياً.

بيت الرجاء

تأسست الجمعية الإنجيلية، المعروفة أيضاً باسم «بيت الرجاء الإنجيلي» عام 1999 بمبادرة فردية من مؤسسها جان عتر، وهي على حد قوله «الجمعية الوحيدة التي تُعنى برعاية أطفال الشوارع وتأهيلهم». عتر، المدير السابق لميتم شنلر في البقاع الغربي، والمقيم هو وعائلته في بيت الرجاء، «يعزو سبب إنشائه الجمعية إلى اقتناعه بضرورة قيام مؤسسة عمل اجتماعي لمعالجة ظاهرة أطفال الشوارع، وخصوصاً أن كل شكل من أشكال العمل الاجتماعي في لبنان له مؤسساته عدا أطفال الشوارعيذكر عتر أن فكرة قيام الجمعية لم تستسغ على صعيد رسمي «لكن أمام كل محاولة للتثبيط من عزيمتنا كنا نزداد ثباتاً وقوة للنهوض بمشروع رعاية أطفال الشوارع». وتمثلت الصيغة النهائية التي جرى بموجبها التعامل بين الجمعية والوزارات المختصة بأن يتمّ تسلّم الأطفال وتسليمهم عبر مكتب المدعي العام في وزارة العدل. لكن هذا لا ينفي عن المؤسسة اهتمامها بأطفال الشوارع خارج نطاق الوزارة، إلا أن العائق الأساسي الذي حال دون تنفيذ رزمة من المشاريع هو وقف الإمداد المالي الذي كانت تقدمه وزارة الشؤون الاجتماعية منذ عام 2003 ومنها مشروع الـTouch Base بحيث يجري الاتصال مباشرة بأطفال الشوارع عبر سيارة فان تحمل الأغذية والدواء والألبسة.
ويشير عتر إلى أن الجمعية مدينة باستمرارها لأموال المحسنين لتقديم ما يمكن تقديمه للعناية بهؤلاء الأطفال، مشيراً إلى الدور الفعال الذي أدّته السيدة أندريه لحود في دعم المؤسسة واستدامتها. أمّا أولويات الجمعية، فيحدّدها بأربع: «التأهيل الصحي للأطفال، وخصوصاً أنهم يعيشون في الشارع حيث يتعرّضون لمختلف أنواع الانتهاك الجسدي والجنسي، إضافة إلى التأهيل النفسي والاجتماعي والمدرسي».

غياب الأرقام

لا تملك وزارة الشؤون الاجتماعية رقماً محدّداً لعدد أطفال الشوارع. مجمل النسب هي لدراسة أجريت عام 2002، وهي قديمة جداً إذا ما قورنت «بما تلى عام 2002 من أحداث على لبنان كانت لها انعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية» على حد تعبير رئيسة مصلحة الأحداث في الوزارة سلام شريم. بمعنى آخر «إن نسبة أطفال الشوارع اليوم تفوق ما كانت عليه عام 2002. أمّا العدد الرسمي لأطفال الشوارع ممن حوّلوا الى الجمعية الإنجيلية للرعاية الاجتماعية عام 2004 فهو 267 لبنانياً،541 سورياً، 46 مصرياً، 36 قيد الدرس، 12 عراقياً، 35 بدواً رحل، 43 فلسطينياً، 26 سيراليونياً، 8 جزائريون».
وتشرح شريم دور الوزارة في هذا الإطار: «في ما يتعلق بأطفال الشوارع تتدخل الوزارة بطريقة غير مباشرة عبر جمعية مختصة، أي إنها تموّل تلك الجمعية وتراقبها عبر وضع نظام وعقد سنوي يشمل كل الخدمات الواجب تقديمها إلى فئة أطفال الشوارع». وتبدي شريم أسفها لأن عدد الجمعيات التي تهتم بأطفال الشوارع في لبنان لا يتجاوز الواحدة «هي الجمعية الإنجيلية». وفي ما يتعلق بالدعم المالي الذي يتعيّن على الوزارة تقديمه تعيد شريم سبب وقف الدعم المالي لبيت الرجاء الى «المتغيرات السياسية التي عاشها لبنان منذ عام 2003 حتى الآن، إذ إنه أمام عدم إقرار كل موازنة في الوقت المحدّد لم تعد الوزارة قادرة على تقديم الاعتمادات المالية اللازمة». وعن التنسيق بين الوزارات المختصة توضح أن «هناك لجنة خاصة تقوم بدراسة وضع أطفال الشوارع وتقويم كل الثُّغر القانونية والتطبيقية في عمل كلّ وزارة ستصدر ضمن استراتيجية وطنية». كما تلفت إلى أنه «أقيمت أخيراً دورة تدريبية للعاملين في المراكز الإنمائية التابعة لوزارة الشؤون بهدف تحديد طريقة التعاطي مع أطفال الشوارع وكيفية إقناعهم بالتحوّل الى الجمعية».

المجلس الأعلى للطفولة

من جهته، يشير رئيس المجلس الأعلى للطفولة ايلي مخايل إلى أن العائق الذي يحول دون تحديد العدد الرسمي لأطفال الشوارع «هو استغلالهم من جانب مافيات التسوّل أو Checklets boys بحيث يفرض عليهم الانتقال اليومي من منطقة إلى أخرى».
يمثّل المجلس الأعلى للطفولة إحدى الهيئات المنضوية في إطار وزارة الشؤون الاجتماعية، مهمته تنسيق السياسات الاجتماعية الخاصة بقضايا الطفولة بين الهيئات الرسمية والخاصة. وقد عمل المجلس على إنشاء لجنة وطنية تتمثل فيها وزارة العدل والشؤون الاجتماعية والداخلية والأمن العام بهدف إنتاج خطة وطنية لمعالجة ظاهرة أطفال الشوارع.
تتم هذه المعالجة، حسب مخايل «عبر مقاربة اجتماعية وقانونية شاملة لأن الموضوع مرتبط بمكتومي القيد والأجانب وحالات التفكك الأسري»، وهذا يتطلب الركون إلى القانون 422 في التعامل مع أطفال الشوارع، الذي ينص على ضرورة التبليغ عن الحدث الذي يعدّ مهدّداً بالانحراف أو بوضع خطر إذا كان متسوّلا أو متشرّداً. كما يشير مخايل إلى أن المجلس «يعمل حثيثاً على خلق لوبي للمطالبة بتحديث القوانين التي تحمي الأطفال، وحماية الفتيات العاملات في المنازل، وخصوصاً أن القانون اللبناني لا يزال قاصراً عن تحديد فترة توقيف إجبارية لطفل الشارع بحيث يجري إخضاعه لبرامج تأهيل نفسي ودراسي واجتماعي. وعلاوة على ما سبق لا يزال العائق المالي ماثلاً أمام أي مشروع من شأنه تأمين رعاية أطفال الشوارع وتأهيلهم».



صعوبات علم النفس في التعامل معهم

تروي دالين باسط، وهي عالمة نفس في الجمعية الإنجيلية، عن الصعوبات التي تواجه كل من يتعامل مع أطفال الشوارع. ذلك أن «اختلاف البيئات الاجتماعية للأطفال وتنوّع الأسباب التي دفعتهم إلى الشارع يفرضان على عالم النفس وضعاً يستحيل معه الإمساك بمنهج علم النفس والسير فيه حرفياً، إذ لا بد من الدخول في علاقة شخصية مع كلّ طفل على حدة ولو بحدود معينة».
وتعدّ أولى هذه المشاكل «تلاشي حدود التعاطي المسؤول لهؤلاء الأطفال مع محيطهم، لكون الشارع منحهم مساحة من الحرية المطلقة على فعل وقول أي شيء دونما رقابة». فالطفل بحسب ما تراه باسط هو «ابن القوانين والحدود التي يرسمها له العالم الأوّل أي العائلة، وتكمن المشكلة في أنّ الأهل أنفسهم ليسوا مخوّلين بتعريف هذا الطفل بالحدود والقوانين والأعراف التي يجب الالتزام بها، لكونهم لا يعترفون بها أصلاً».
ولا تنسى باسط حالة طفل، لأم مسلمة وأب مسيحي، مكتوم القيد ولا يسأل عنه أحد. لقي هذا الطفل رعاية خاصة منها، وكان يخرج بصحبتها الى منزل عائلتها حيث حظي باهتمام كبير من الجميع. رغم ذلك كان يتعرّض لنوبات عصبية «كلما حاول أحدهم الدخول إلى مكنونات قلبه أو سعى إلى معرفة المزيد عن وضعه، ما دفعه ذات مرة، وكان برفقتي، إلى التوجه إلى السيارة حيث أمسك بقطع الثياب وقام برميها في وجه أفراد عائلتي قائلاً لهم: انتو بتجيبوني لهون حتى تمنّنوني».
وتؤكد باسط أن معظم هؤلاء الأطفال هم في صورة مخالفة للصورة النمطية التي ألبسهم إيّاها المجتمع، حيث تبيّن جليّاً أن «جلّ ما يدأب عليه أطفال الشوارع هو البحث عن مكان ما يشغلونه في عائلة ولو غير عائلتهم».