strong>كامل جابر
• إحياء الواقعة تدرّج من السرّية إلى الانتفاضة فالمسرحة

تمثِّل مراسم إحياء اليوم العاشر من محرَّم في النبطية محطة مميزة في تاريخ المدينة التي يتوافد إليها الآلاف كل عام لمشاهدة واقعة كربلاء ممسرحة، وخصوصاً مع قيام عدد من المخرجين والفنانين اللبنانيين بتطويرها عاماً بعد عام

جسدت مشاهد انتفاضة عاشوراء ـــــ النبطية، بتاريخ 16/10/1983، المسرح الأكثر حيوية وواقعية في تاريخ إحياء مراسم اليوم العاشر من محرم في لبنان. ففي ذلك اليوم، اختلط حشد من جمهور المسرح العاشورائي بمشخصي الملحمة الحسينية، وخاضوا مواجهة حيّة مع جنود الاحتلال الإسرائيلي، الذين دخلوا بسياراتهم وشاحناتهم إلى وسط الحشود. وعلى وقع هتاف «حيدر، حيدر» دارت معركة أحرق فيها المنتفضون جميع سيارات الدورية الإسرائيلية؛ وانتهت بشهيد من المقاومة وقتلى وإصابات في صفوف العدو، وحصار تام للمدينة مدة ثلاثة أيام، وإعلان عاشوراء النبطية 1983 الانتفاضة الجماهيرية الأولى.
ربع قرن هجري مرّ على امتزاج دم الشهادة الحية الذي يجسّد قيم عاشوراء، بدم «التطبير» المتقطر سنوياً تتويجاً لعرف الحزن و«الاحتفالية» التي تحييها المدينة منذ أكثر من مئة عام.
قبل الانتفاضة وبعدها وبينها، جهدت مرجعيات المدينة الروحية، وكذلك من خلال «لجنة عاشوراء» في رسم دورة مختلفة من مشاهد الملحمة وفصولها وحواراتها المتوارثة مع تعديلاتها، من جيل إلى جيل.
لا يقتصر التشخيص على اليوم العاشر فقط، بل يبدأ عشيته. وكانت قد جرت العادة قبل الستينيات، وحتى منتصف السبعينيات من القرن المنصرم، أن تنطلق مسيرات «عاشوراء» في اليوم التاسع تحت اسم «تاسوعاء» التي تمثل انتقال الإمام الحسين وآل بيته وصحبه من المدينة المنوّرة في السعودية إلى كربلاء في العراق. هكذا كان أهالي كفررمان وحبوش، جارتي النبطية، يلتحقون بمسيرة النبطية، ويتجهون جميعاً نحو النبطية الفوقا حيث يلتقون بمسيرات من «الفوقا» وكفرتبنيت والزوطرين الشرقية والغربية تعود جميعها إلى نحو حسينية النبطية حيث تنتهي. وبسبب ما تعرضت له المنطقة من اعتداءات إسرائيلية، وخصوصاً في ظل وجود الاحتلال المباشر عدة سنوات على التلال المشرفة على النبطية وجاراتها، اقتصرت المسيرات على تلك المنطلقة من حسينية النبطية نحو النبطية الفوقا وتؤوب مع فرق ملتحقة من الفوقا وكفرتبنيت وأخرى من الزوطرين متجمعة في النبطية الفوقا.
في اليوم التالي، وبعد تلاوة مطولة للسيرة الحسينية وفصولها، بما يتقاطع مع كثير من مشاهد الأداء المسرحي، يبدأ تشخيص موقعة كربلاء الذي شهد تغييرات كثيرة على مرّ السنين.

تاريخ الشعائر والتشخيصوبادر أحدهم، ويدعى إبراهيم الميرزا، الطبيب الإيراني الذي حضر إلى النبطية عام 1917 واستقر فيها مزاولاً للمهنة بعدما تأهل من إحدى بناتها، إلى استصدار ترخيص من الخارجية العثمانية في إسطنبول بواسطة القنصل الإيراني في بيروت، سمح للإيرانيين فقط بإحياء مراسم عاشوراء في النبطية. ودرجت العادة، أن تقوم المجموعات الإيرانية المقيمة في جبشيت بشعائرها تحت إشراف الشيخ عبد الكريم الزين؛ ثم تنظم في اليوم التاسع من عاشوراء مسيرة باتجاه النبطية، ليلتقوا مع إخوانهم، ثم يتوجه الجميع نحو النبطية الفوقا، مقرّ السادة من آل نور الدين. في هذا الوقت كان أبناء النبطية يقيمون مراسمهم السرية في الجامع القديم، بعيداً عن أعين السلطات، وخصوصاً العثمانية التي كانت تمنع بشدة إقامة تلك الشعائر.
في عام 1919، ومع انتهاء الحكم العثماني، بدأ إحياء هذه المراسم مشتركة وعلانية بين الإيرانيين والأهالي في النبطية، ثم أخذ العدد يتضاعف ليشمل كل الشيعة في جبل عامل، وظلت النبطية نقطة التقاء الجميع، وخصوصاً يومي التاسع والعاشر من محرم. وكانت «الندبيات» تردد باللغة الإيرانية على غرار مثيلتها المستخدمة في إيران. أما مسيرات «اللطيمة» فكانت تجوب شوارع البلدة الضيقة خلال الليالي التسع الأولى من محرم، حيث تتردد جمل البكاء على موت الإمام الحسين وآل بيته. ثم يبدأ بعدها تشخيص مصرع الحسين باللغة الإيرانية ثم باللغة العربية، وكان ذلك في عام 1926.
مع هذا التطور صارت النبطية مقصد الكثيرين من المهتمين الذين كانوا يتوافدون إلى البلدة ليلة العاشر من المحرم، على ظهور الجمال والبغال والدواب، من أجل المشاركة بمراسم اليوم التالي. كانوا يبيتون ليلتهم على بيدر البلدة أو في بيوتها الفاتحة أبوابها للزوار، أو في خاناتها التي كانت منتشرة بكثرة في حينه.

من البيدر إلى المسرح

شكل بيدر النبطية مكاناً سنوياً لإحياء مراسم العاشر من محرّم، وإن شهدت هذه المراسم تغييرات كثيرة. فمن تمثيلها واستخدام الخيل على بيدر النبطية، إلى تمثيلها على مسرح أُعدّ خصيصاً لهذا العمل، ثم عودتها إلى بيدر النبطية واستخدام مساحته كلها، مع أحصنة وجمال ونوق (باتت تستقدم من منطقة بعلبك بعد اندثار الجمال من منطقة النبطية) وحفر خنادق تمثل نهر الفرات حيث منع الماء عن الإمام الحسين، ثم أخيراً إلى المسرح المغلق. غير أن فرق التمثيل ظلت تنطلق على الأحصنة والجمال من جامع حي السرايا القديم، وتجوب الساحة العامة، ثم تتوجه نحو البيدر.
شهد عام 2004، تحوّلاً في «مسرحة» عاشوراء التي تجسدت احتفالية على مساحة بيدر المدينة البالغة نحو عشرة دونمات، فقد أخرجها المخرج اللبناني رئيف كرم، بعد ثلاثين عاماً من مشاهدة طقوسها متفرّجاً، ونفذها مع ممثلين محترفين، فضلاً عن مشاركة العديد من الوجوه التمثيلية المحلية التطوعية، من مدينة النبطية. هكذا دخلت إلى الاحتفالية المسرحية تعديلات مشهدية بصرية، فضلاً عن حوارات سمعية بحتة وموسيقى تصويرية، من قرع للطبول وألحان عاشورائية للموسيقي المغربي المعروف نجيب شيرادي نفذتها فرقة «وشم»، إضافة إلى عناصر سينوغرافية ضخمة، تتألف من دمى كبيرة وشاشات بيضاء وجوقات «اللطم والندب»، وتخللتها مبارزات من فوق ظهور الأحصنة ومشاهد مسجلة مسبقاً. كما أدخل إليها العنصر النسائي للمرة الاولى، فأدت الممثلة وفاء شرارة دور عقيلة بني هاشم، السيدة زينب، فيما أدى دور الإمام الحسين الممثل اللبناني عمار شلق.
في العام التالي، تبدّلت حال المسرح العاشورائي، وعدّلت مشاهده وغيبت أجزاء أساسية من السينوغرافيا. واستُخدمَت بعض الأصوات التسجيلية السابقة. صهلت الخيل وغطى الغبار الكثيف البيدر، ثم انجلى على نوافير «معدة» من الدم القاني، ارتفعت في السماء «قرباناً» (صيغة جديدة في التشخيص لم تتكرر) من تحت خيمة حمراء غطت جثث شهداء معركة الطف، لتعلو بعدها أصوات الهاتفين «حيدر، حيدر» وهم يضربون الرؤوس المخضبة بالدم؛ علىالإيقاع عينه غير المتوقف في أي عام، حتى بعد هدوء معركة عاشوراء مع المحتلين الإسرائيليين عام 1983؛ وصار في الأعوام الأخيرة لا ينتظر انتهاء المعركة، «ليعبر عن إعلان فعل التوبة»، بل يبدأ مع بداية السيرة الحسينية، بعيد السابعة صباحاً، ولا ينتهي قبل الثانية بعد الظهر، بعد حرق خيام معسكر «الحسين» وسبي النساء وزين العابدين.
وبسبب تزامن شهر محرم، منذ ثلاثة أعوام مع فصل الشتاء، انتقل تشخيص موقعة «كربلاء» إلى مسرح خشبي مقفل من جوانبه الثلاثة، يشبه إلى حد كبير شاشة التلفاز، بحيث لا يمنع البلل أو البرد الجمهور من متابعة فصول المسرحية. والممثلون، هم من الفنانين اللبنانيين المعروفين وأبناء المنطقة، ومن إخراج ابن المدينة الفنان حسام الصباح الذي كانت له سابقاً، صولات في هذا المضمار، وكذلك سبقه إليها المخرج الدكتور مشهور مصطفى.

نحو نصّ يخرج من المحليّة
في أواخر أيام العثمانيين، قدم إلى النبطية المجتهد العلامة الشيخ عبد الحسين صادق من النجف الأشرف في العراق، وأسهم في إخراج الشعائر إلى العلن، وخصوصاً بعدما بنى في عام 1909 أول ناد «حسيني» في لبنان وبلاد الشام. ثم راح يشجع على إقامة مسرح عاشوراء وكتابة النصوص المتعلقة بذلك. ومع انسحاب الحكم العثماني من لبنان، «نسّق» الطبيب الإيراني إبراهيم الميرزا أول حوار بالعربية لتمثيلية عاشوراء. وكان هذا الحوار يدور أثناء مبارزة الحسين مع الشمر، وهو الذي أعطى تمثيلية عاشوراء النسق المسرحي الذي عرفت به في ما بعد.
وتذكر بعض المراجع أن النصوص لم تكن موجودة أصلاً، وكانت مقاطع إيمائية صامتة تؤدى على شكل مبارزة بين فرقتين، واحدة تؤدي دور الشمر وأخرى دور الحسين؛ ربما لأن النصوص التمثيلية الأصلية المتعارف عليها آنذاك كانت تؤدى باللغة الفارسية غير المتقنة في جبل عامل.
وقد عدَّل نص المسرحية الراحل الشيخ محمد تقي صادق، نجل الشيخ عبد الحسين صادق، ولا يزال هذا النص معتمداً في تشخيص موقعة عاشوراء إلى تاريخ اليوم في النبطية التي تستقطب الآلاف من المشاركين في يومي التاسع والعاشر الذين يتوافدون إليها من مختلف المناطق اللبنانية، حيث تقدّم المسرحية وسط حشود قد تصل إلى نحو خمسين ألف مشارك ومتفرج من مختلف الملل والطوائف.
قد تتبدّل المشاهد والمواضع والمؤدون في كل عام، لكن نصاً مسرحياً موثقاً كاملاً لم يوضع في كراس ثابت حتى الآن، ليدوّن تاريخاً مسرحياً دامغاً يطمح إلى «العولمة». هناك محاولات، خرجت بجرأة ـــــ في سبيل تحقيق الهدف ـــــ عن النطاق المحلي الضيق وعن الهوية الشيعية للممثلين والمخرجين، في سعي دؤوب يرعاه إمام المدينة الشيخ عبد الحسين صادق، منذ نحو ربع قرن، للإسهام من قريب أو بعيد في إغناء المشهد الاحتفالي العاشورائي وديمومته. لكن يبقى التشخيص القابل للتعديل عاماً بعد عام، رهناً بالقيمين والممسكين بزمام الأمور، ولا يتجاهل عامل الطقس والمناخ، والعامل المادي... وكذلك الظروف الأمنية.