جان عزيز
تستفيض أوساط الرئيس نبيه بري في شرح تفاصيل موقفه من المبادرة العربية التي أطلقها بيان القاهرة في السادس من الجاري، وما انتهت إليه. وتؤكد جازمة أن ثمة انسجاماً كاملاً بين هذا الموقف وبين وصف بري للمبادرة فور إعلانها، بأنها تاريخية، وتضيف إن رئيس المجلس فصّل فهمه لهذه المسألة للأمين العام لجامعة الدول العربية عمرو موسى شخصياً، في لقاءاته المتعددة معه، أثناء زيارته الأخيرة.
قال بري لموسى إن ثمة نقاطاً عدة تمثّل قرائن دافعة على صحة التفسير الذي ذهب إليه رئيس المجلس.
أولاها، قرينة اللغة العربية نفسها، وهو ما بات مكرراً مراراً، فحين يقول بيان القاهرة بحكومة جديدة، «على ألّا يتيح التأليف ترجيح قرار أو إسقاطه بواسطة أي طرف»، فهذا يعني حكماً وحتماً ألّا يكون لأي طرف نصاب التعطيل في مجلس الوزراء، وبالتالي، فإن نص البيان حاسم وقاطع لجهة عدم إعطاء الموالاة، كما أي طرف آخر، أكثر من عشرة وزراء في حكومة ثلاثينية.
وعندما خلص بري إلى القول لموسى، إن الترجمة الحسابية لهذه المعادلة تعني حصص العشرات الثلاث، رد موسى بأن ذلك يعني نوعاً من عدم العدل تجاه الموالاة، فرد بري جازماً بالقول: هذا غير صحيح، لا تنسَ أن الموالاة تحتفظ دوماً بقدرتها على الإسقاط، عبر استقالة رئيس الحكومة، وهو ما يمثّل وحده فارق العدل المطلوب لمصلحتها.
أمّا القرينة الثانية، والمنبثقة من نص المبادرة أيضاً، فهي تستند إلى عبارة «ويكون لرئيس الجمهورية كفة الترجيح». وهذا يعني أن يكون «صوت» الرئيس في مجلس الوزراء قادراً على «الترجيح»، في شتى الاتجاهات، لا في اتجاه حصري واحد. فإذا كان صحيحاً على سبيل المثال، أن صيغة 14 ــ 10 ــ 6 هي الترجمة الصائبة للمبادرة العربية، فهذا يعني أن اتفاق الرئيس مع الموالاة يؤمّن نصاب 20 وزيراً، ويكون كافياً فعلاً للترجيح، فيما اتفاق الرئيس مع المعارضة لا يؤمّن إلّا 16 وزيراً، وهو أقل من النصاب الدستوري المطلوب لانعقاد مجلس الوزراء. وبالتالي، لا يكون هذا الاتفاق كافياً لإعطاء «رئيس الجمهورية كفّة الترجيح»، كما نصت مبادرة الجامعة.
ماذا يعني ذلك؟ هذا يعني أن اعتماد صيغة كهذه أو قرينة منها، سيجعل رئيس الجمهورية تحت رحمة الموالاة، لا حكماً وازناً بينها وبين المعارضة.
أمّا القرينة الثالثة، التي دفعها بري إلى موسى، فهي مرتبطة مباشرة بوصفه بيان القاهرة بالبيان التاريخي، قال رئيس المجلس إن ثمة 22 دولة عربية، بينها رئيس واحد من دين غير الإسلام، هو الرئيس اللبناني. وفي ظل هذا الوضع بالذات جاءت مبادرة الجامعة، لتدعم بإجماع الدول العربية، إعطاء هذا الرئيس غير المسلم بالذات، صلاحية الترجيح وسلطته وحقه في النظام اللبناني، وهذا هو «التاريخي» في بيان القاهرة، في زمن الحديث عن صدام الحضارات وأزمة العالم الإسلامي مع الآخر.
وبالتالي، فإن أي انتقاص من قدرة الترجيح الرئاسية المطلقة هذه، يعني إطاحة هذا الإنجاز التاريخي للدول العربية وجامعتها.
فوق هذه القرائن الحسية المنبثقة من النص، ثمّة قرينتان إضافيتان: أولاً كلام تلفزيوني لأحد وزراء الخماسية العربية قبل أيام، عن أن مضمون المبادرة يقتضي عدم إعطاء أي طرف حصة تفوق الثلث، وثانياً الفهم المطابق لهذا المنطق من جانب حكومة السرايا بالذات، بدليل أنه فور صدور مسودة البيان ليل السبت الأحد، في 5 ــ 6 الجاري، جنّ جنون أحد أقطاب الموالاة، وأمضى كبير مستشاريه الليل بكامله، يجري اتصالات هاتفية بالمسؤولين العرب، طالباً تعديل النص، فكان الجواب الوحيد الذي تلقّاه، أن ما كتب قد كتب.
إزاء هذه القرائن كلها، ما الذي يفسر عناصر القوة في استمرار تعنّت الموالاة؟ تعتقد أوساط أقطاب المعارضة، أنه بين زيارة دايفيد ولش الأخيرة إلى بيروت، في 18 الشهر الماضي، واتصالات رايس الهاتفية بعدد من أركان الموالاة، أُبلغ هؤلاء على ما يبدو بتطمين أميركي حاسم بإعادة ضخ الدعم المطلوب في العروق اليابسة. ويبدو أن أولى خطوات هذا التطمين أنجزت فعلاً، عبر سحب الملف من الوسيط الفرنسي الذي أزعج الموالاة كثيراً في الآونة الأخيرة، وجعله بين أيدي الفريق الذي يمثّل «عرب أميركا» أكثريته الراجحة. لكن التطمين نفسه قد لا يكون مقتصراً على هذا الحد. بل تخطّاه إلى الإيحاء ــ أو الاجتهاد لبنانياً ــ بأن تعثر خطوة التعريب، قد يكون مفيداً، أو ضرورياً حتى لفتح باب التدويل.
هكذا صار إجهاض المبادرة العربية ربما أمراً محتوماً، يشارك في تنفيذه حتى أصحابها والآباء، وما تسرّب عن أجواء لقاء عمرو موسى بالسيد حسن نصر الله، يصب في هذا الاستنتاج بالذات. مع كلام عن حوار استفزازي أراده الأمين العام العربي مع الأمين العام لحزب الله، لجهة تحميل المسؤولية والتحايل على مكوّنات المعارضة، والتهويل بما بعد الفشل.
إلى أين من هنا؟ على الأرجح إلى دورة جديدة للمرة الألف، في الحلقة المقفلة والمفرغة، قفزاً فوق الشريك ــ الحل، قبل العود على بدء.