صديقين- آمال خليل
عشرات المنظّمات الدولية «استوطنت» في الجنوب منذ ما بعد عدوان تموز ونفّذت، ولا تزال، مئات المشاريع التنموية. فماذا أعطت تلك المشاريع لتنمية القرى وماذا أخذت؟


وفقاً للبيان التقرير الذي ألقاه الرئيس فؤاد السنيورة قبل شهرين وعدّد فيه إنجازات الحكومة منذ تأليفها، يتبيّن أن مؤتمر استوكهولم منحها 940 مليون دولار لإعادة الإعمار. ولغاية شهر أيلول الفائت، دُفع مبلغ 406 مليارات ليرة من أصل الدفعة الأولى البالغة 436 مليار ليرة، تعويضات للجنوبيين. أمّا مؤتمر باريس 3، فقد أعطى ثمانية مليارات دولار. ما يعني أن الأموال الطائلة التي مُنحت باسم المتضررين من العدوان، كان عليها أن تُنفق على الأولويات والتفاصيل في القرى المتضررة. فعلى أي حال تنام هذه القرى وتصحو؟

صديقين نموذجاً

لمّا غابت الدولة، أصبحت صديقين (قضاء صور)، رابع البلدات الجنوبية المنكوبة، واحدة من أكثر من «بلّت» فيها مئات الأيدي المتعددة الجنسية نشاطاتها وخدماتها وإغاثاتها منذ انتهاء العدوان. وبسبب الدمار الكبير (350 وحدة سكنية مدمرة)، اجتمع العالم على رفع آثاره عبر مؤسسات حكومية ومدنية ضخّت ملايين الدولارات، مساعدات عينية ومادية، بعضها فعل إيجاباً بين أهلها فيما ضعضعت أخرى نفوسهم.
خلال مرحلة الإغاثة والطوارئ التي استمرت عاماً واحداً بعد العدوان، وفي صديقين وحدها، وزّع الصليب الأحمر الدولي آلاف الحصص الغذائية والطبية والإنسانية، وتولّى البنك الدولي وبرنامج الأمم المتحدة للتنمية مساعدة البلدية على رفع الأضرار المباشرة عن البنى التحتية وفتح الطرقات المقطوعة وإزالة الردم من الشوارع وتأهيل الأرصفة وإصلاح الأعطال في أعمدة الإنارة العامة. وبالتزامن، أفرغت جمعيات محلية وعالمية خيراتها بين الأهالي، مثل الوحدة الإيطالية في اليونيفيل التي قدّمت 300 حاوية نفايات، ومنظمة HABITAT التي أعادت ترميم 140 منزلاً متضرراً، ومسار السياسات الشبابية التي أنشأت بتمويل من وكالة التنمية السويسرية، ملعب كرة قدم ومسرحاً في المدرسة الرسمية؛ إضافة إلى عشرات حلقات التدريب الشبابية والنسائية على التمثيل والتعبير والمواطنية والتنمية وتسجيل أفلام تسجيلية في إطار مجموعة «سينيمايات». أمّا منظمة «أوكسفام»، فقد أضاءت 120 منزلاً بتقديمها مولّداً كهربائياً.
وإذا كان أفضل ما يذكره الأهالي في صديقين ما بعد العدوان هو «الزفت الإيراني باب أول» الذي «افترش» شوارعها الرئيسية، فإن التنمية في البلدة «المحظوظة» لم تكتمل دولياً حيث إن أياً من الهيئات لم يلحظ إنشاء ناد شبابي وثقافي ومكتبة عامة ومركز إنترنت على سبيل المثال وهو ما لم تعرفه البلدة في تاريخها، ولم تكتمل رسمياً في ظل عدم إصلاح شبكة الهواتف الثابتة، مثلاً، فضلاً عن التأخر في إنجاز ملف تعويضات أصحاب البيوت المتضررة وأصحاب المؤسسات التجارية والصناعية.
لكن «الإهمال الرسمي المزمن للجنوب»، بحسب رئيس البلدية عماد بلحص «يحوّل أصغر بذرة ترميها الهيئات الدولية في قراه مشاتل لأنها أرض بور»، معتبراً أن «المشاريع والمساعدات التي تساقطت على صديقين لا تصنع التنمية المنشودة ما دامت الدولة ليست الراعي الرسمي لها. لأن كل هيئة لها أجندتها وأسلوبها الخاص في العمل والأولويات».
زفت الطرقات حضر قبل تشييد أسقف 350 منزلاً سوّيت بالأرض أو تحت مستواها وشرّد أهلها، ولا يزالون/ بين صور والبلدات المجاورة. فقد أعلنت وزارة الإسكان والتعمير السورية مباشرةً بعد انتهاء العدوان، تبنّي إعادة بناء 150 وحدة مدمرة فيها على غرار تجربتها بعد عدواني 1993 و1996. ولمّا أوكلت إدارة الأمر إلى مجلس الجنوب بعد إنجاز الكشف على الأضرار من جانب مهندسي المجلس وشركة خطيب وعلمي مرات عدة، وقعت الواقعة وضربت ملفات المتضررين وغير المتضررين بعضها ببعض وسرت شائعات عن صفقات بين بعض المهندسين وعدة أشخاص لتسجيل وحدات وهمية باسمهم على أن يتقاسموا قيمة الشيكات لدى دفع التعويضات، ما دفع بالسوريين إلى إعادة النظر بملف صديقين حتى صرف النظر عنه تماماً. وفي المحصلة، فإن الأهالي انتظروا أشهُراً عدة المصير المجهول قبل أن يبلّغوا بأن الحكومة العمانية قدمت هبة مالية إلى الحكومة اللبنانية لتصرف منها مستحقاتهم؛ وقد تسلّموا عبر الهيئة العليا للإغاثة الدفعة الأولى من التعويضات وشرعوا بإعادة بناء البيوت.

«قرّب على الطيب»

منذ انتهاء عدوان تموز، استوعبت بعض قرى قضاء صور أنواعاً مختلفة من المشاريع والمساعدات، كانت خلالها جعبة البنك الدولي وUNDP الأكبر بين غيرهما من التي نفّذت مشاريع إغاثة، منها تأهيل البنى التحتية والأرصفة والطرقات والكهرباء والمستوصفات وأعمال تنظيف ومساعدات زراعية واجتماعية. لكن القاسم المشترك الذي يجمعها هو أنها كانت قصيرة المدى في التنسيق والرؤيا والمتابعة. يرى أسعد الدر، مساعد مشاريع UNDP في الجنوب سابقاً ومنظمة العمل الدولية حالياً، أن «كلّ المساعدات التي قدّمت لم تذهب (ضيعان) في ظل الإهمال الرسمي التاريخي في الجنوب والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة التي منعت الاستثمار».
وكأن المستقبل الجنوبي يبدو للمنظمات الدولية آمناً وسالماً من التهديد الإسرائيلي، تتجه الجهات الدولية إلى اعتماد مفهوم جدي ومتوازن للتنمية. ويؤكد الدر أن «المرحلة المقبلة في تنفيذ المشاريع التنموية الممولة من مؤسسات الأمم المتحدة وسواها ستكون أكثر تنظيماً وتنسيقاً مع المجتمع المحلي بعد دراسة حاجاته وخصوصياته»، معلناً انطلاق «المرحلة الثانية من دعم القرى المتضررة بمشاريع اقتصادية تنموية مستدامة ومتكاملة». ويشير الدر إلى أن الهيئات المانحة والعاملة «تعلّمت من تجربة العام الأول بعد العدوان، وتتأنّى جيداً في دراسة آليات الدعم الجديدة وتتحسّب لصرف الأموال الطائلة من دون جدوى أو تكرار مشاريع متشابهة بينها، لذا، فإن المنظمات الدولية تجتمع دورياً للتنسيق ووضع خطة عمل واحدة». إذ نجد أن الكثير من الأيدي الدولية بلّت يدها في البنى التحتية والطرقات والأطفال من دون خطة متواصلة، حتى بدأت توصف بعض المشاريع بأنها «توزيع إعاشة».
ويوضح الدر أن منظمة العمل الدولية تتجه، بعد دراسة مشاكل القرى، نحو دعم المشاريع الزراعية، وخصوصاً الزيتون والزيت والتريبة الحيوانية والتصنيع الغذائي وتربية النحل والزراعات البديلة.