عمر نشابه
«هذه المحكمة لكم جميعاً. تعنيكم جميعاً، وستكون بإذن الله، بوابة الخلاص من مسلسل الإجرام الإرهابي الذي أنهك لبنان طوال السنوات الماضية. إنها لحظة فاصلة بين زمنين. زمن القتل والجريمة من دون حساب، وزمن الحساب والعقاب لكل من يريد لبنان ساحة مفتوحة للإجرام».
النائب سعد الحريري، 30 أيار 2007


خلال الفترة التي رافقت وسبقت صدور قرار إنشاء المحكمة الدولية الخاصة عن مجلس الأمن الدولي ذكرت تصريحات عديدة نسبت لمسؤولين في قوى 14 آذار أن الاغتيالات والهجمات الإرهابية في لبنان هدفها تعطيل إنشاء المحكمة، وأنها ستتوقف يوم إنشاء المحكمة. لكن لم تمرّ خمسة أيام على صدور القرار 1757 عن مجلس الأمن تحت البند السابع في 30 أيار 2007 حتى دوّى انفجار في منطقة البوشرية (4 حزيران 2007) أدّى إلى جرح 12 مواطناً وتدمير ممتلكات سكان المنطقة. وفي اليوم التالي دوّى انفجار آخر في ذوق مصبح أدّى إلى استشهاد مواطن وجرح ثلاثة. وبعد ذلك بستة أيام استشهد النائب وليد عيدو ونجله خالد إضافة إلى 8 مواطنين في منطقة رأس بيروت. ومنذ ذلك الحين طالت يد الإجرام أيضاً النائب الشهيد أنطوان غانم واللواء الشهيد فرنسوا الحاج وعدداً من المواطنين ووقع آخرها أول من أمس في الكرنتينا، وهو ما أدى إلى استشهاد ثلاثة مواطنين وجرح ما لا يقلّ عن 20. إن تكرار العمليات الإرهابية بعد صدور القرار 1757 يدعو إلى التساؤل عن صحّة القول بأن إنشاء المحكمة الدولية يحمي لبنان من الإرهاب والجريمة. ومع أن التشكيك في صحّة هذا القول ينطبق على المدى القصير لا بل على المدى المنظور بالنسبة إلى الواقع الأمني الحالي في لبنان. غير أن بعض المسؤولين في قوى 14 آذار يدّعون اليوم أن الاغتيالات والهجمات الإرهابية قد تستمرّ حتى انطلاق عمل المحكمة الدولية في الأشهر المقبلة. ويرى هؤلاء أن سوريا تعطّل انتخابات رئاسة الجمهورية في لبنان بهدف تعطيل المحكمة الدولية. لكن المبادرة التي صدرت عن اجتماع وزراء الخارجية العرب أو التي تعرف أيضاً بـ«المبادرة العربية» لإخراج لبنان من مأزق الرئاسة، شارك وزير الخارجية السوري وليد المعلّم في صياغة نصّها من جهة، ورحّب بها قادة قوى 14 آذار من جهة أخرى. والسؤال هنا هو كيف توفّق قوى 14 آذار بين اتهام سوريا بأشدّ العبارات بجريمة اغتيال الرئيس الحريري ونواب وإعلاميين وسياسيين ومواطنين والترحيب بمبادرة شارك في صياغتها «القاتل والطاغية» السوري؟ ألن يسأل مناصرو قوى 14 آذار إذا كان ذلك تراجعاً تكتيكياً عن اتهام سوريا بالجرائم، أم تسليم المحكمة الدولية كلياً سلطة محاسبة سوريا والعزوف عن اتهامها مباشرة عبر الإعلام؟ في كلتا الحالتين لا بدّ من التذكير أن وظيفة المحكمة كشف الجناة بالأدلة والقرائن أولاً، ثمّ محاسبتهم على جرائمهم طبقاً لما ينصّ عليه القانون. وفي هذا الإطار تبقى قرينة البراءة قائمة حتى صدور حكم المحكمة، وبالتالي يعدّ تلويح قوى 14 آذار والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي لسوريا بالمحكمة أداة ضغط أو تهديداً دون جدوى. كذلك يصبح اعتبار المحكمة رادع «النظام السوري القاتل» مثيراً للشكوك حول توظيف المحكمة في حلبة الصراعات السياسية الدولية والإقليمية والمحلية. ولعلّ التركيز على ردع «القاتل السوري» بدل التركيز على ردع القاتل بغضّ النظر عن هويته هو ما يعطّل وظيفة الردع لأن استباق ختم التحقيق والمحاكمة تجاوز لقواعد العدالة التي تمثّل ركيزة قوّتها.
قبل الخوض أكثر في البحث عن سبب إخفاق وظيفة ردع «القاتل السوري» التي كان يتمناها سياسيو 14 آذار للمحكمة، نتوقّف عند بعض الملاحظات ذات الصلة:
أولاً، رغم رفعها شعار العدالة والقانون والمساواة، ركّزت حكومة فؤاد السنيورة على إنشاء المحكمة الدولية وعلى تطوير البوليس والاستخبارات دون إيلاء الاهتمام الجدي لتحسين أوضاع المحاكم المحلية وإصلاح القضاء اللبناني الذي يعاني نقصاً في التجهيز والمباني والقوى البشرية المؤهلة علمياً بحسب المعايير المهنية الدولية. فبدل أن تصرف مبالغ من خزينة الدولة على تقوية النيابات العامة والقضاء الجزائي والشرطة القضائية، جرى التركيز على تزويد فرع للمعلومات يراه جزء كبير من اللبنانيين (عن حقّ أو عن باطل) منحازاً لجهة سياسية على حساب أخرى، بالملايين وبالسيارات والأجهزة الإلكترونية، وتمت إعادة بناء مبان لضباطه فيها مكاتب فخمة ممكننة ومفروشة بالسجاد العجمي بينما بقي القضاة محشورين في مكاتب ضيقة تفتقر للتجهيز والأثاث. يفتح ذلك المجال أمام القمع البوليسي الموجّه سياسياً بدل الحزم الأمني للقضاء بناءً على القانون حصراً، وهو ما يفعّل وظيفة ردع الإرهاب والجريمة.
ثانياً، على القوى المعنية باتهام سوريا بارتكاب الجرائم الإرهابية أن تتذكر أن عدم التعاون السوري مع التحقيق الدولي والمحكمة مخالف لقرارات مجلس الأمن الدولي الملزمة لجميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة، لكنه لا يعني بالضرورة أن النظام السوري مشارك في الجرائم الإرهابية والاغتيالات. وفي هذا الإطار لا يمكن المحكمة أن تتهم أو تدين مسؤولين سوريين بارتكاب جرائم اغتيال مستندة إلى عدم استجابة سوريا لمطالبها. إشارة هنا إلى أن التقارير السبعة الصادرة عن لجنة التحقيق الدولية برئاسة القاضي البلجيكي سيرج براميرتس تشير إلى «تعاون سوري مرضٍ» مع طلبات اللجنة.
ثالثاً، لا يفترض بحسب المعايير المهنية في التحقيق الجنائي، إسقاط احتمال ألا تكون الاغتيالات والجرائم الإرهابية التي طالت لبنان منذ الأول من تشرين الأول 2004 متلازمة، واحتمال ألا تكون الجهة نفسها هي التي خطّطت ونفّذت الجرائم. يعيدنا ذلك إلى اختصاص المحكمة الدولية الذي ينحصر بالجرائم المتلازمة مع جريمة اغتيال الرئيس الحريري بحسب القرار 1757، فإذا ثبت غير ذلك يصبح القضاء اللبناني الذي تهمله الحكومة، المرجع المختصّ بمتابعة تلك الجرائم.

الإفلات من العقاب

إن المبدأ الذي يلتزمه المتمسكون بتحقيق العدل يرتكز على التخلّص من آفة الإفلات من العقاب (impunity) ويرى البعض أن المحكمة الدولية الخاصة هي السبيل لتحقيق ذلك. وفي هذا الإطار ينصّ نظام المحكمة على عدم جواز العفو عن المدانين، بينما احتمال عدم تلازم الجرائم الإرهابية مع جريمة اغتيال الحريري يعني أن شروط إصدار عفو عام عن مرتكبي جرائم اغتيال الزميل سمير قصير وجورج حاوي وبيار الجميل وجبران تويني وأنطوان غانم ووليد عيدو واللواء فرنسوا الحاج المنصوص عنها في الدستور اللبناني قائمة. وفي هذا الإطار لا بدّ من التذكير بأن العفو العام عن المدان في جريمة اغتيال رئيس الحكومة الأسبق الشهيد رشيد كرامي كان قد صدر رغم إعلان السنيورة في الذكرى العشرين لاستشهاد الرئيس رشيد كرامي (1 حزيران 2007): أنه «لا يمكن لذكراه أن تنسى. كان قدوة ونموذجاً في الأخلاق والفكر والحرص على المصلحة العامة، رجل الوفاق والحوار والتلاقي، رجل التواصل، أشعّ حضوره وفاحت عروبته من مدينته طرابلس، عاصمة الشمال إلى كل لبنان، ومن لبنان إلى كل العالم العربي. رحم الله الرئيس الشهيد رشيد كرامي، شهيد الدولة الواحدة والسلطة القادرة». لكن السنيورة يتوقف عند هذا الكلام العاطفي دون أن يقوم بأي خطوة تحقق العدالة لآل كرامي و«كلّ لبنان» والعرب. ألا يستحق كرامي العدالة يا دولة الرئيس؟

لعدم إسقاط الاحتمالات

صدر عن القضاء العسكري اللبناني أخيراً قرار قضائي يدلّ بالوقائع على تحرّكات ضابط استخبارات إسرائيلي في مختلف المناطق اللبنانية عام 2006 من العديسة جنوباً وصولاً إلى جبيل شمالاً مروراً بصيدا وبرجا وجونية والصفرا. كذلك يذكر القرار مراقبة الاستخبارات الإسرائيلية الدقيقة للأراضي اللبنانية عبر الجوّ، ويشير النصّ الصادر عن قاضي التحقيق العسكري عدنان بلبل إلى القدرة الفائقة للاستخبارات الإسرائيلية في تجنيد العملاء وإدخال المتفجّرات وأدوات إلكترونية كوّنت جزءاً أساسياً من أداة تنفيذ جريمة اغتيال الشهيدين الأخوين محمود ونضال مجذوب في 26 أيار 2006. جاءت هذه الجريمة أثناء استمرار التحقيق الدولي والمحلي في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري والجرائم الإرهابية الأخرى التي تلتها. لكن التقريرين الأولين الصادرين عن لجنة التحقيق الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري لا يشيران إلى اشتباه في الاستخبارات الإسرائيلية بينما يؤكد ديتليف ميليس اتهام «سوريا» ويعلن لمجلس الأمن وللصحافة العربية والدولية أنه «متأكد» من أن مسؤولين في النظام السوري موّلوا وخططوا ونفّذوا عملية الاغتيال الإرهابية في 14 شباط 2005. لا يقتصر تجاوز ميليس للمهنية ومعايير النزاهة على استباقه ختم التحقيق وقرار المحكمة فحسب، بل إن عدم اشتباهه في الاستخبارات الإسرائيلية الناشطة في لبنان واختصار الاشتباه بالاستخبارات السورية يدلّان على ازدواجية واضحة لمعايير التحقيق الجنائي. هذه الازدواجية التي شهدتها المرحلة التحضيرية للمحكمة تسقط وظيفة ردع القاتل المحتمل عن ارتكاب جرائم إضافية قبل ختم التحقيق لأنها تركّز على جهة واحدة دون غيرها ما يخلق ارتياحاً لدى آلة القتل الاسرائيلية التي لا تقتصر اغتيالاتها على ابناء الضفة وغزة كما أشار القرار القضائي اللبناني الأخير.