إبراهيم الأمين
منذ المكالمة الشهيرة بين وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس ونظيرها الفرنسي برنار كوشنير، أثناء وجود الأخير في بيروت، والكرة تتدحرج نحو التعطيل الفعلي لكل المبادرات. يومها قالت رايس لنظيرها الفرنسي: ماذا تفعل عندك؟ هل تريد أن ينتصر أعداؤنا على الأصدقاء؟ اخرج من عندك!
ديفيد ولش جاء بعد هذه المكالمة. قال لأقطاب 14 آذار إن حكومته لا ترى أن من المناسب فتح الأبواب أمام حل يمنح المعارضة سلطة إضافية ويعيد نفوذ سوريا إلى لبنان. وقال لهم: ليس هناك ما يجبركم على القبول بحل على حساب مصالحكم!
إليوت أبرامز، المتشدد في البيت الأبيض، والفاعل في مجلس الأمن القومي الأميركي، الذي يعمل على ملف لبنان، لكون ملفات المنطقة الأخرى متروكة لغيره، كان مضطراً لأن يأتي إلى لبنان حتى يعيد وليد جنبلاط إلى الحظيرة: ماذا تعتقد، هل سنترككم لقمة لحزب الله وسوريا؟ هل تعتقدون أن العالم سيقف مكتوف الأيدي إذا لجأت المعارضة إلى مواجهة ميدانية للإمساك بالحكم؟ وأكثر من ذلك قال: هل تعتقدون أن إسرائيل ستقف مكتوفة الأيدي إذا احتل حزب الله بيروت وجبل لبنان، وعادت سوريا إلى البقاع؟ وحتى لا يبقى كلامه في الهواء أضاف: إن ملف المحكمة الدولية سوف يسير قريباً جداً، مطلوب منكم الصبر قليلاً. سوف نسوق قادة سوريا وكل من معها إلى المحكمة. فقط مطلوب منكم الصبر!
السعودية التي تدعم الوفاق على ما يصدر يومياً من بيانات ومواقف وتصريحات من المملكة أو من بيروت، ترى أن المساعي الفرنسية لا تفي حلفاء المملكة حقهم. تعترض بقوة لدى الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وتعطيه إشارات عملية إلى أن ما يريده من صفقات في السعودية وفي دول الخليج لا يمكن أن يحصل عليه وهو يفك العزلة عن دمشق مقابل لا شيء. يعرف ساركوزي أن الأمر أصعب مما يظن. حاول رشوة بشار الأسد بملفات، بعضها لا يهم الرئيس السوري، وبعضها الآخر لا يمكن ساركوزي أن يفي بها. وفي الحالتين يشعر ساركوزي بأن الأمر لا يحتاج إلى هذا القدر من الضغط، وما عليه إلا الانسحاب. قبل وقت كان هو، وترك وزير خارجيته يسرح ويمرح بين القيادات اللبنانية، لكنه كان يترك ملف التفاوض بيد المدير العام للرئاسة كلود غيان. يتولى الأخير التواصل مع سوريا ومع السعودية ومع قيادات لبنانية، في مقدمها الرئيس نبيه بري عبر شقيقه محمود، ولا يتوقف عن التواصل مع الرياض، وحتى مع طهران. لكنه كان يعلم أنه في لحظة الحقيقة، ليس بيده سوى الإقرار بالعجز عن تحقيق ما وعد به لناحية الضغط على فريق 14 آذار. قال بمرارة: إن للأميركيين نفوذاً أكبر على هؤلاء، وإن واشنطن ليست مستعجلة في الحل.
وعندما دخلت المساعي الفرنسية مرحلة متقدمة، كان الإحراج يصيب فريق 14 آذار أكثر من ذي قبل، إذ إن باريس تتحدث عن دعم سوري جدي، وعن ضغوط تمارسها دمشق على قوى حليفة لها في لبنان، لكن المعارضة لا تقبل السير باتفاق ناقص. لم يصدق الأميركيون الأنباء. وقال فريق 14 آذار إن الأمر عبارة عن توزيع للأدوار: تقول سوريا نعم، وتشير إلى حلفائها في لبنان لقول لا. لكن المسؤول الفرنسي الرفيع، غيان يعرف أكثر من غيره تفاصيل حقيقة الموقف، وفي لبنان اطلعت قيادات بارزة، بينها قوى أمنية وسياسية في فريق الأكثرية على مداولات جرت داخل قوى المعارضة. ولاحظت توتراً قام لأيام حين عبّر العماد ميشال عون عن قلقه من ضعف البعض والسير بتسوية ناقصة، ما اضطر الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله إلى التدخل بقوة، مؤكداً أن قوى المعارضة سوف تكون إلى جانب العماد عون، ولن تتركه في أي حال من الأحوال، حتى لو أدى ذلك إلى «زعل» سوري أو إيراني أو بعض الأقطاب المحليين. ولم يمض الوقت الطويل حتى تبين لسوريا أن الاتفاق المطلوب يحتاج إلى تفسيرات وإلى آلية واضحة، وكان المطلوب في هذه الحالة التوصل إلى التزامات يجب أن يأتي بعضها من جانب المرشح للرئاسة العماد ميشال سليمان، لكن الأخير فاجأ الجميع.
رفض سليمان إدارة علاقة جدية وناضجة مع العماد عون، أعرب عن خيبته لأن في المعارضة من لم يثق به، وأكد لرئيس المجلس أنه لن يتورط في التزامات مسبقة. وقال لقيادات عدة من المعارضة إنه غير قادر على تقديم ضمانات قبل توليه الرئاسة. وعندما أحرجه البعض في الحديث عن تصوره للأدوار اللاحقة وعن تقديره لهوية من يجب أن يتولى هذه الوزارة الحساسة أو تلك، بدا سليمان غير راغب في الدخول في التفاصيل، لكنه لم ينف أنه يحتفظ لوزير الدفاع الياس المر بموقع خاص. كان الحديث يدور حول تولي المر وزارة الداخلية، على قاعدة أنه محايد، وأن هذا يوفر الاطمئنان لقوى المعارضة. لكن سليمان سمع كلاماً واضحاً من قيادات رئيسية في المعارضة بأن الفيتو الأول الذي سيعوق المشروع كاملاً هو الفيتو على تولي المر وزارة الداخلية.
وأكثر من ذلك، بدأت أزمة الثقة بين جهات بارزة في المعارضة وقائد الجيش تتعاظم. لم يكن كافياً أن يقول سليمان كلاماً عاماً على سلاح المقاومة والديموقراطية والتوازن، بل خرج من يدعوه، ولو بصوت خفيض، إلى الابتعاد فعلاً عن التجاذب السياسي وعدم قول ذلك في البيانات الصادرة عن مديرية التوجيه في الجيش اللبناني (من المفيد الإشارة هنا إلى أن مديرية التوجيه معنية بالأخبار التي تخص المؤسسة العسكرية أو تتناول قائد الجيش بصفته المهنية، وهي ليست معنية وليس من اختصاصها الرد على مواقف أو تحليلات أو بيانات تتناول قائد الجيش بصفته مرشحاً لرئاسة الجمهورية).
وقيل لسليمان إن عليه الابتعاد عن التواصل الذي يظهره طرفاً، إذ ليس منطقياً أن يرفض سليمان دعوة العماد عون لتناول العشاء في منزله، فيما يستقبل عدو المؤسسة العسكرية الأول سمير جعجع في اليرزة، ثم يذهب إليه في منزله، ثم يكون مسروراً بأنه تناول العشاء في منزل وليد جنبلاط أكثر من مرة، علماً بأن الأخير كان قد قال له في اللقاء الأول في كليمنصو إنه لا يدعم ترشيحه انطلاقاً من موقف مبدئي ضد تعديل الدستور وضد وصول عسكري إلى رئاسة الجمهورية.
لكن سليمان لم يجب أحداً عن السؤال الأهم: لماذا دعمت الولايات المتحدة وفرنسا والسعودية وقوى 14 آذار ترشيحه للرئاسة الآن؟ لماذا لم تقبل به يوم أطلق الرئيس بري مبادرته الشهيرة في نهاية آب الماضي؟ وما سبب تراجع 14 آذار عن تحفظاتها على تعديل الدستور أو وصول عسكري إلى السلطة؟ أليست هذه أسئلة بحاجة إلى
إجابات؟
ومع ذلك، يعود عمرو موسى إلى بيروت. أمس، عندما حطّت الطائرة التي أقلته من القاهرة إلى مطار بيروت، تأخر فتح الباب نحو ربع ساعة. كان موسى ينتظر وركاب الدرجة الأولى قبل أن يبتسم الأمين العام للجامعة العربية ويقول: هل بدأت الرسائل تصلني من الآن؟ ضحك من حوله، وسألوه: وماذا تتوقع الآن؟ فردّ من دون ابتسامة: كل شيء ممكن في لبنان، لكن ليس هناك ما أتوقعه... بالطبع لم يكن موسى يتحدث عن أزمة الرغيف.