أسامة القادري
«يئست... قرفت حياتي». بهذه الكلمات يختصر أبو صخر معاناة 25 سنة من الألم جرّاء حروق تنتشر في أنحاء جسده كلما أحسّ أن هناك خطراً يهدّد «السلم الأهلي»، ويقف العلم حائراً أمام حالته.
أبو صخر، طه كريم حسين، لم يتجاوز الخمسين من عمره. أب لثمانية أولاد، يعيش في منزل بسيط في بلدته الفاعور في البقاع الأوسط. يعاني منذ 25 عاماً الحروق التي أتت على كامل جسده وأقعدته في المنزل ليصبح عالة على زوجته ثم أبنائه. يحاول أن يلتمس «بصيص» أمل من تقارير الأطباء الذين لم يستطيعوا أن يحددوا فيها سبب استمرار هذا المرض الذي يلتهم جسده كل سنة تقريباً.
بدأت قصة أبو صخر مع المرض إبان الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وكان آنذاك ملتحقاً بإحدى الفصائل الفلسطينية: «كنت في تلك الفترة أخدم في الدامور وجاءنا بلاغ بأن القوات الإسرائيلية تقوم بإنزال في الدامور وعلينا التصدّي لها. تحرّكنا على الأثر وفوجئنا بأن الإسرائيليين أصبحوا على الرمل. وعند انتشارنا دخلت غرفة وشعرت بأنني أدوس شيئاً طريّاً تبيّن لي بعدما أشعلت القداحة أنها جثث مكدسة بعضها فوق بعض في منظر مقزّز جداً. شعرت لحظتها بقشعريرة لم أحسّ بها من قبل».
بعد هذه الحادثة بنحو شهرين برزت في جسده بثور حمراء «حساسية» حسبما أفاده أحد الأطباء، شفي بعدها بأيام. مع وصول القوات الاسرائيلية إلى بيروت كان شاهداً على مأساة ثانية: «رأيت امرأة ترمي بولدها الرضيع لتهرب من قذائف الـ800. لم تبتعد عنه كثيراً حتى لحقت بها القذائف ومزقتهايتنهّد وهو «يحك» ساعديه المحروقين وبطنه المحروق... فمنذ ذلك الوقت أحس أن رقبته تجمّدت «كالصخر، متل الباطون». وبعدها بربع ساعة بدأ لحمه يحترق من الرقبة نزولاً حتى أخمص قدميه. ليصبح بعدها جسده كتلة نار مشتعلة ليلاً نهاراً، أياماً وشهوراً وهو يتنقل من طبيب الى آخر، حتى الطب العربي والروحاني لم يوفّرهما.
دهن جسده بشتى أنواع الوصفات العربية «اللي بيخطر واللي ما بيخطر على بال» ولم يفوّت حتى إرشادات المتطفلين على مهنة الطب، إلى أن ذهب الى الجامعة الأميركية في بيروت حيث بقي فيها شهراً وعشرة أيام. «أكثر من 300 طبيب وطبيبة كشفوا عليّ، لكني بقيت حقل اختبار بالنسبة إليهم، يحاولون اكتشاف علاج لمرض لم يروا مثله من قبل». هكذا أخذت مباضعهم من «لحمه» مقدار ما أخذه المرض من دون أن يتوصلوا إلى نتيجة سوى أن جلده أصبح رقيقاً، وحذّروه من التعرض «للشمس أو للبرد ومن الصدمات العصبية». ومع الدواء المسكّن الذي أجمع الأطباء على وصفه له تحسنت حاله تدريجياً، وخصوصاً لجهة التخفيف من ألمه.
لم يترك هذا المرض لـ«أبو صخر» شيئاً إلا وحرقه معه، أنفق أمواله وباع ما يملك من أجل العلاج وما زالت النار تأكل جسده، فقد لاحظ أن مرضه هذا «يزوره» مرة كل سنة فيعاني الأوجاع ستة أشهر وفي أحسن الأحوال شهرين.
«حتى حرب نيسان الـ96 لم أنجُ منها». يردف وهو يستعين بذاكرة زوجته صالحة. «بعد مجزرة قانا بثلاثة أيام داهمني المرض على أشده أقعدني كلياً لا أقوى على الحراك نحو السنة.. عظامي برزت وأصبحت واضحة». وعن آخر مرة ساءت فيها حالته ولم يشفَ منها حتى اللحظة «كانت خلال حرب تموز عندما كنا نعمل مع جارنا في قلع البطاطا بالقرب من مواقع القيادة العامة». أمّا زوجته، فترى أنه هو المذنب لكونه عصبي المزاج. «دغري بعصب وببيّن عليه... لذلك نخاف من أن نجرح شعوره بأي أمر كان حتى لا يمرض».
مرة واحدة تحسنت حالة أبو صخر، وعاد إلى العمل: «قبل تحرير الجنوب بفترة كان مريضاً جداً وما إن حصل التحرير حتى طاب فجأة وعمل سائق شاحنة في بلدة الخيام لمدة شهرين، ثم عاوده المرض".



التلفزيون مصدر العلة!

«زوجي ومجبورة فيه، هيك الله كتبلو» تقول أم صخر مختصرة معاناة 25 عاماً من المسؤولية والعمل في إعالة أبنائهما ومصاريف علاجه وعلاج ابنتهما الصغرى المريضة (كهرباء بالرأس). عرفت صالحة أن تكون أمّاً وزوجة وعرفت كيف تحافظ على شخصية زوجها ليبقى الأب بـ«وهرته» أمام أبنائه.
ما يؤلم أبو صخر أن زوجته تنزل من سهل البقاع بعد أن تقلع منه الخضر الى بيروت «لتبسط» وتبيع إنتاجها وتأتي بثمن العلاج والدواء له ومصاريف المنزل «بسبب مرضي هذا حرم أولادي الستة العلم، فلم يدخلوا مدرسة لكوني لا أقوى على العمل، أمّا الولدان التوأم فقد تكفل إخوتهما بهما».
يتحدث صخر، الابن البكر، عن حالة والده بحذر شديد «مش مشكلة قعدتو بالبيت. المشكلة الألم الذي يعيشه دائماً». مشيراً إلى جهاز التلفزيون «هو علة والدي لأنه لا يفوّت أيّ نشرة أخبار رغم أنها تمثّل مصدراً لعصبيته، وانزعاجه من الواقع السياسي الذي يهدّد الوطن بأتون الحرب الأهلية».