أنطوان سعد
تدرج الأوساط القريبة من بكركي الحملة التي يتعرض لها البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير منذ أيام في خانة ضرب المرجعية المسيحية الأساسية الداعية إلى تقديم أولوية انتخاب رئيس الجمهورية على ما سواها من أولويات يراها بعض الأفرقاء المسيحيين ضرورية لإعادة التوازن إلى المعادلة السياسية التي تدير لبنان. فالبطريرك الماروني برأيها يفوّت على المسيحيين فرصة تأليف حكومة فيها ثلث معطّل للمعارضة والاتفاق على القضاء دائرة انتخابية. علماً أن العماد ميشال عون الذي يصرّ على هذا الثلث هو أول من ضربه بعزوفه عن المشاركة في الحكومات الأولى المنبثقة من اتفاق الطائف، والوزير السابق سليمان فرنجية الذي يصر على الاتفاق على قانون الانتخاب صوت لمصلحة كل التقسيمات الانتخابية في الأعوام 1992 و1996 و2000 التي لم تعتمد مرة القضاء دائرة انتخابية على الأقل في محافظة الشمال.
وبعرضها لأسلوب الهجوم الذي تتعرض له بكركي، تجد هذه الأوساط أنه يستهدف الدور الوطني للبطريركية وشخص البطريرك وانحيازه للخصم، ويترافق مع مساع غير معلنة وشائعات عن قرب موعد استقالة البطريرك. وقد تناوب العماد عون وسوريا وحلفاؤها اللبنانيون على استعماله في عام 1989 ثم خلال فترة الهيمنة السورية على لبنان، ويبدو أن رئيس التيار الوطني الحر وحليفه رئيس تيار المردة قررا إحياءه.
لقد كُتب الكثير عن علاقة البطريرك الماروني بالعماد عون نظراً للدور المحوري الذي أدّياه في المرحلة السابقة، أما علاقة سيد بكركي بالوزير فرنجية فلم يُكتب عنها ربما لأن الثاني كان زعيماً محلياً مثّل جزءاً لا يتجزأ من «الخط» الذي واجهه البطريرك ضمن السلطة التي همشت المسيحيين طوال خمسة عشر عاماً.
لقد كانت علاقة البطريرك صفير بآل فرنجية أكثر من حسنة حتى تولى سليمان الحفيد زعامة العائلة. كان المطران صفير صلة الوصل بين البطريركين بولس المعوشي وأنطونيوس خريش والرئيس سليمان فرنجية، ومحاضر الاجتماعات بينهما تشهد على ود وصداقة واحترام متبادل. وأول مرة تجاوز فيها البطريرك صفير البروتوكول المتعلق بخروجه من الصرح البطريركي، كان للقيام بزيارة للرئيس فرنجية في قصره في إهدن في الرابع من آب 1989، بعد مرور سنة تقريباً على الفراغ الرئاسي الثاني في تاريخ الجمهورية اللبنانية المستقلة.
يومذاك وقع الخلاف الأول في وجهات النظر بين سيد بكركي وسليمان الحفيد الذي كشف عن اتجاه لدى المجموعات الموالية لسوريا للقيام بزيارة للديمان وإعلان موقف ينالون فيه من العماد ميشال عون والدكتور سمير جعجع. فأجابه البطريرك: «إذا كان من إعلان فيجب أن يكون دعوة إلى توحيد الصفوف، أما إذا كان هناك إعلان يصدر عن الديمان يعمل على المزيد من شق الصفوف فهذا لا يمكن التسليم به». وقد سارع الرئيس فرنجية إلى إبداء موافقته على كلام البطريرك.
ربيع سنة 1992، قامت مجموعة من الشخصيات المسيحية قبيل الانتخابات النيابية بمسعى لتحقيق مصالحة بين القيادات المسيحية. وعندما اجتمعت بالوزير فرنجية في بيروت، وحدثته عن مسعاها الذي يتم برعاية البطريرك الماروني، أجابها بأن «بطريركي هو حافظ الأسد».
بين عامي 1992 و2000 تأرجحت العلاقة بين البطريرك وفرنجية ما بين الفتور والتوتر طبعاً من جهة الوزير الثابت في كل الحكومات تقريباً، ودائماً على خلفية الخلاف على «الخط» السياسي والموقف من سوريا. ورداً على مطالبة البطريرك بالإفراج عن الوزير السابق المسجون الدكتور سمير جعجع عملاً بمبدأ المساواة بين هذا الأخير وسائر من حملوا السلاح خلال الحرب، قرر فرنجية إرسال تظاهرة زغرتاوية لمعاقبة سيد بكركي على ما رآه انحيازاً من جانبه.
في كل هذا لم يأت سيد بكركي على ذكر فرنجية يوماً بالنقد المباشر على رغم أن له بعض المواقف الانتقادية لمعظم القيادات المسيحية الأخرى، وإن بمقدار قليل لأن البطريرك صفير مقل عادة في ذلك. وفي أحد الأيام، سئل البطريرك عن سبب هذا الاستثناء لفرنجية فرد: «يجب ألا ننسى أبداً حجم المعاناة التي مر بها هذا الرجل. لذلك تجدر مراعاته». وأغلب الظن أنه عاد بالذاكرة وهو يجيب إلى 14 حزيران 1978 يوم جنازة أهل الفتى سليمان فرنجية ابن الأحد عشر ربيعاً الذي كان إلى جانب جده المفجوع. في تلك الجنازة قال المطران صفير أمام 33 نعشاً: «المصيبة أكبر من أن ينفع معها عزاء البشر (...) في اعتقادي أن لا لذة في الكلام لأن الصمت أبلغ وأوقع».