كامل جابر
قلعة صليبية توازي بحجمها وضخامة بنائها قلعة تبنين لكنها منسية ومجهولة تماماً، إذ لا وجود لها على الخرائط الأثرية والسياحية للوطن. إنها قلعة «دير كيفا» المعروفة باسم قلعة «مارون» التي «يجتاحها» البناء بسرعة بعدما نهبت حجارتها وغطت الأشجار والأعشاب بناءها، وهو ما يجعل زيارتها محفوفة بالمخاطر

بعد زمن طويل من الإهمال الذي أتاح عمليات العبث ببنيانها وسرقة حجارتها لاستخدامها في إنشاء عدد من بيوت بلدة دير كيفا، ها هي قلعة «ميرون» أو «مارون» تقع مجدّداً ضحية اعتداء آخر، إذ يغزو البناء الجديد مساحتها الواقعة على التلّ الشمالي المشرف على دير كيفا، الواقعة في قضاء صور جنوبي بلدة صريفا.
عدد من البيوت الحديثة باتت تطوّق القلعة من ناحيتيها الشرقية والجنوبية. وفي غياب البلدية المسؤولة التي استحُدثت وسرعان ما حُلّت بسبب التجاذبات، تغيب الرقابة المحلية تماماً وتُشرَّع الأبواب للمخالفات. فعدد كبير من بيوت بلدة دير كيفا شيّدت بحجارة تلك القلعة، واستعملت في العقد الماضي سكناً لبعض العائلات التي ما لبثت أن تركت أقبيتها لتبني بيوتاً بجوارها. ويقول سليم محمود مختار دير كيفا «القلعة ملك الدولة وهي اليوم مهدمة خصوصاً بعد عبث العابثين فيها. وكنت قد طلبت عدة مرات من قوى الأمن الداخلي تأمين سكن للعناصر قرب القلعة حتى تتمكن من حمايتها من سرقة حجارتها والعبث ببنيانها، لكن لا حياة لمن تنادي».
ورغم الإهمال والعبث، لا تزال الأبراج الدائرية السبعة، المنتصب بعضها بامتشاق حاد أو مائل قليلاً، تروي حكاية مجد غابر كلّل الحصن التاريخي الذي لا تقلّ مساحته عن 23 ألف متر مربع. تسترخي القلعة منهكة من تواتر الأعوام والإهمال في آن معاً. لا تكاد تلمّ وجع جدار انهار بفعل تقلبات المناخ والأيام، حتى تدخل في جرح برج يلتوي من تفسّخ سيودي به كله لا محالة؛ في وقت لم تسلم فيه من عبث الأيادي الباحثة عن كنوز دفينة. وأكثر ما يصيبها تلك الأعشاب والأشجار البرّية، قاهرة القلاع، التي تفتت جذورها الصخر فكيف بالحجارة المتراكمة تسعمائة عام وعشرين أو أكثر؟ فيما لا تقوّمها صيانة ولا يلملمها حضن راع أو جهة منقذة؟
القلعة بناها الصليبيون عام 1124 م. نقطة حماية للقدس التي لا تبعد عنها كثيراً، ومركزاً يحمي طرق الحجاج والتجار. ويقال إنها تعرف باسم «ميرون» نسبة للقائد الصليبي الفرنسي الذي جدّد بناءها. وقد جعلها موقعها على تلّ مرتفع يتوسط جيرة من الأودية، والسور الضخم الذي يلفها مع الأبراج العالية في منعة أمام كلّ الغزاة حتى استحالت عليهم إلى أن سقطت بيد الاجتياح المملوكي بقيادة السلطان قلاوون، الذي حاصرها سبعة أيام واستولى عليها وهدمها عام 1289م. حتى لا تتحصن فيها فلول الصليبيين. وظلت القلعة على حالها حتى سنة 1761م. عندما جدّد بناءها الشيخ عباس النصار الوائلي، حاكم صور ومنطقتها إبان الحكم العثماني؛ وولّى عليها أخاه الشيخ حمزة الذي جعلها ثكنة له ومسكناً لعائلته.
طريق متواضعة متعرّجة لا بديل لها هي درب القلعة. وللدخول إليها، يجب سلوك إما طريق ملتوية بين الكروم والحقول أو «التسلّق»، وكان الخيار الثاني هو الأنسب لمن يروم
المجهوليحيط بالقلعة سور منيع بارتفاع ستة أمتار وعرض مترين، وينتصب عند كلّ زاوية من زواياه السبع، برج مستدير يبلغ قطره ثمانية أمتار أو أكثر، بداخله قبو يُستخدَم مهجعاً للحرّاس، فضلاً عن الأقبية التي استُعملت سجوناً لعقود خلت. وإن كانت الطبقات السفلية للقلعة صليبية بامتياز، فلا تزال أبنية القرن الثامن عشر تظهر في الطابق العلوي، وتتوزع بين أقبية وآبار وبيوت حجرية، انهار معظمها وطمر بعضها.
الدخول إلى القلعة الحصن لا يخلو من المخاطرة. بداية يجب تجاوز شبكة أشواك متراصة، تتجدّد في كل عام. عند الزاوية الجنوبية الشرقية برج انهار بعضه، تدلّت أعشاب قاسية على جدرانه الخارجية والداخلية، بعدما انهار سقفه. وتزيّن دورته الشمالية كوّة نافذة للإنارة والرماية؛ تطل على جملة من خانات مدمرة لم يبق منها غير أطلال متناسقة من حيث الانحناء والحجم تزين الجدارين، الشرقي والشمالي للقسم الشرقي من القلعة الذي تداعت كل أبنيته وخاناته.
وبعد المغامرة ودخول ممرّات ترابية وعرة تفضي إلى خارج السور من الناحية الشمالية؛ تطالعك ثلاثة أبراج متشابهة الارتفاع، متناسقة التوزيع تفصل بينها جدران تتوازى معها في الارتفاع والانتصاب. ولدخول القلعة، فإن تسلّق ردم جدرانها الخارجية الشاهقة ضروري وخطر، لكنّ جمال قاعات القلعة الهندسية الذي يبرز رغم الأعشاب والدمار ينسي التعب والخطر.
ففي وسط القلعة الحصن، يرتفع بين البرجين الشمالي والجنوبي جدار شاهق يلتقي وسطه في زاوية أكثر ارتفاعاً: إنها أطلال قاعات غطى العشب الذي نبت على جوانبها زينة الجدران المنحوتة وانحصرت الإنارة فيها بالكوّات التي أحدثها الدهر في السقف. وبين هذه القاعات وأقبية القسم الغربي «غابة» من أشجار الصبّار التي تتلقف كل ما يتهاوى من الجدران والبناء، ويجب التحايل عليها لدخول القسم الغربي من القلعة الذي يختصر عهدها الرائع وموطن الإدارة والسكن. أقبية واسعة وغرف منحنية السقوف، مرتفعة الجدران، متصلة بعضها ببعض غطى الردم أجزاء منها ودكّ البعض الآخر؛ فتطلّ عليها من كوة في سقفها علّك تهتدي إلى مدخلها ولا تهتدي.
بعدها تضيع في أرجاء القلعة: ممرّات وغرف تحتية وفوقية، جدران وعقود فممرات، وتتنبه فجأة إلى رقبة بئر وأخرى وثالثة، حتى تكاد تصدّق الرواية المتحدثة عن 365 بئراً تنتشر على مدى المساحة الواسعة للقلعة. وبينها كلّها أشجار بلوط ضخمة ومساحات من السمّاق، والأشواك ثم الأشواك. في أرجاء القلعة الحصن «تقاوم» الدهر والإهمال أطلال غرف كانت مبنية هنا وهناك، فبعضها لم يبق منه غير عتبات أبواب ونوافذ بعضها مستقيم وأخرى من أقواس أو قناطر لا تزال تحمل في خبايا حجارتها رشاقة قديمة. منظر هذه «الأطلال» سيدة هذا الوسط يبعث بالنفس الشعور بألم مقلق، ألم على معلم تاريخي ضخم ومهمّ منسي من سلطات لا تعترف بوجوده ومهمل من أبناء قرية لا يرون فيه إلا «مقلع» حجارة منحوتة! فهم، لو أرادوا لرأوا في وجهه التاريخي الشيّق إنماءً اقتصادياً حقيقياً لمنطقتهم وأبعدوا حينها منازلهم عن الآثار وحافظوا عليها.



إدراج وترميم

كانت الرابطة الثقافية في دير كيفا قد تمكنت من إدراج القلعة موقعاً أثرياً في الجَرد العام للمديرية العامة للآثار منذ 8 سنوات، لكنها لم تُدرَج موقعاً سياحياً لكونها غير مؤهلة لاستقبال الزوار في وضعها الحالي.
وتؤكد مصادر متخصصة أن ترميم القلعة وتأهيلها يحتاجان إلى نحو مليار ليرة لبنانية، نظراً لامتدادها الجغرافي والعمراني الواسع، ولسوء حالتها الهندسية وتصدّع الأبنية.