strong>عبادة كسر
• بحثاً عن «كرامات» تتحقّق للأولياء... في «زوايا» بعلبك

أكثر من 75 عاماً قضاها الشيخ أبو يوسف كسر في «الدعوة إلى التصوّف» من خلال الزاوية التي يديرها في بعلبك. هذه «الزاوية» تعجّ بالألغاز كما تزدحم بالسيوف، الشيشة، السنجق، الدفوف والطبول، الخليليات وتأخذ روّادها كل ليلة خميس إلى عالم غريب يخضع لقوانين خاصة بشيخ الزاوية

كان عمر محمد كسر، أبو يوسف، ثماني سنوات يوم اختتم قراءة القرآن في كُتّاب الشيخ محمد صلح. لم يأت ختمه للقرآن وليد الصدفة، ذلك أن كسر لم يستطع تلبية طلب الشيخ في المرة الأولى التي ذهب فيها إليه: «طلب مني الشيخ قلماً ودفتراً، ولما عرضت طلبه على والدي المزارع قال لي إبقَ في المنزل...».
هكذا عاد الطفل محمد إلى مساعدة والده في الزراعة، واللعب مع الأصدقاء إلى أن التفت إليه أحد أقاربه ولم يعجبه بقاؤه من دون تعليم، فاصطحبه ثانية إلى الكتّاب ودفع للشيخ ليرتين ذهبيتين. ذلك أنّه كان على كلّ من يريد تعلّم القرآن (قراءة وختمة) أن يدفع هذه القيمة خلال فترة زمنية تحدّدها مهارة المتلقي وقدرته على الاستيعاب، وتراوح تلك الفترة بين شهر وسنة. استطاع محمد أن يختم القرآن قراءة خلال شهر ونصف شهر فقط، ويذكر أن عقاب من لم يكن يجيد القراءة الصحيحة الضرب على قدميه بـ«قضيب الرمان».
في ذلك الوقت أيضاً كان يرتاد مع والده كلّ ليلة خميس واثنين زاوية الشيخ صالح عرفات في حي آل الرفاعي حيث كان ينتابه شعور مفعم بالسعادة، وخصوصاً أن الشيخ عرفات كنّ له معزّة خاصة لأنه طفل يعيش مع زوجة أب لا تهتم به: «كنت مميّزاً عند الشيخ لأني أخبرته عن وضعي، فقال لي: يا بنيّ تستطيع أن تأتي لزيارتي في أيّ وقت، وصار يصطحبني معه أينما ذهبخلال تلك الزيارات بدأ محمد يتعرّف إلى «كرامات» المتصوّفين، ومما يذكره «مرة كنت فيها مع الشيخ ومررنا قرب تنور يلتهمه الجمر وفي قعره البطاطا المشوية. جذبتني رائحتها واشتهيت الأكل، لاحظ الشيخ ذلك فطلب مني النزول إلى أسفل التنور وأن آتي ببعض البطاطا بعدما أخذ هو الإذن من أصحاب التنور. تردّدت خوفاً من حرارة النار المرتفعة لكن الشيخ طمأنني بأنه لن يصيبني أيّ أذى بإذن الله، فنفذت ما قاله لي وبالفعل لم أشعر بأيّ ألم». منذ ذلك الوقت «زاد يقيني وإيماني، وأصبح حلمي الاقتراب مما وصل اليه الشيخ صالح صاحب الكرامات عند الله».
ويستفيض في تعداد تلك «الكرامات»، وخصوصاً ما شهده طفلاً: «مرة اجتمع أهل التصوّف في بعلبك على باب مغارة في البساتين، كانوا يمدحون ويتبادلون الأحاديث النبوية، إلى أن أعرب أحدهم عن رغبته في أكل «البأسما» أي الثلج مع العصير الممزوج بالدبس. مدّ الشيخ يده بوعاء وقرأ في قرارة نفسه بعض الشيء وإذا بالثلج يملأ الوعاء، وقال لمن معه كلوا بإذن من الله، مع الإشارة إلى أنّنا كنا في فصل الصيف».
لهذا لم يتأخر محمد كسر، التلميذ المميز عند الشيخ صالح، في الحصول على صفة «المريد» أي تلميذ الشيخ الذي يلتزم العهد ويواظب على الاهتمام بالزاوية. فكان يحضر للتعليلة (أي يشعل الفحم للقهوة المعتقة) يُحمّي الطبول والدفوف على النار ويُنزل «الأسلحة» ليقوم الشباب، بمشاركته، بضربها في أجسادهم: «كان عمري 12 سنة يوم ضربت نفسي بـ«الشيش» لأول مرة في حياتي».
عندما أصبح في الثالثة عشرة طلب من الشيخ «العهد» فأجابه إنه ما زال صغيراً وقال له: «انت هلق ما بتتحمل». لكنه سمح له بشرب كوب من زيت الزيتون بعدما قرأ عليه الشيخ شيئاً لم يعرفه يومها، «فالاستفسار عن هذه الأشياء ممنوع في ظل النظام الداخلي للزاوية»... بل يعترف أبو يوسف بأن أحداً «لم يستطع أن يسأل الشيخ عن هذا النوع من السلوك لأنه يُدرَج في خانة الأسرار». لذلك لجأ محمد إلى عمته «الشيخة بدر» التي كانت أيضاً من مريدي الشيخ آنذاك فشرحت له: «شرّبك الزيت، يعني أعطاك الطريقةمنذ ذلك الوقت بدأ الشيخ في جولاته من زاوية الى أخرى في لبنان وبعلبك: زاوية ابو شفيق الرفاعي، زاوية محمد خالد الرفاعي، زاوية خليل ياغي... لم تكن ترهقه تلك الجولات، وخصوصاً أنها طوّرت «كرنفالاً دينياً» أطلق عليه اسم «خميس الدعسة» أو «خميس المشايخ»، أو حتى «خميس الشطارة»... علماً أن هذا الاحتفال أصبح ذكرى من ماض يحاول أبو يوسف تجديده، وهو الذي احتلّ ذاكرة البعلبكيين على اختلافهم.
شارك أبو يوسف في كل مناسبات «الدعسة» التي تعود إلى 800 سنة تقريباً «كان المريدون، أي سالكو طرق التصوّف، يجتمعون في ساحة النبي إنعام» وأمام زاوية الشيخ صالح عرفات، وينطلقون في مسيرات تجوب الشوارع لزيارة أضرحة الأولياء في المدينة يتقدمهم حملة الأعلام الكبيرة أو السنجق الذي كُتبت عليه أسماء أقطاب الحركة الصوفية ، فيسيرون وهم يردّدون المدائح النبوية ويقرعون الطبول والدفوف، ويتوّزع الشباب بين ضرب السيف والشيش وأكل الزجاج والجمر وهو مشتعل ونحر الخراف».
كانت هذه المناسبة بمثابة محطة سنوية تحتفل بها بعلبك، التي كانت تؤمّها حشود مؤيدة من سوريا والعراق ومختلف المدن والقرى اللبنانية «حيث كانت مدينة الشمس تتحوّل إلى كرنفال يستمر من الصباح حتى المساء». وبعد زيارة الأضرحة واللعب بالسيف والترس يتجمع الناس على أطراف الطرقات ومن ثم يسيرون وراء النوبة. ويتزامن ذلك مع شراء متطلباتهم من أكل وشرب، وبعد الجولة على الأضرحة كان العديد من المشاركين يتمدّدون على الأرض، ويعتلي شيخ النوبة صهوة جواده فيَعبُر على الأجساد من دون أن يشعروا بالدعسة وإنما بمرور نسمة هواء عليل عليهم.توفي الشيخ صالح عرفات قبل ستين عاماً تقريباً، ما دعا الى اجتماع أهل التصوّف لاختيار خلفه أو وكيله في الطريقة، ذلك أن الخلافة تنتقل بالوراثة بين أبناء جماعة التصوّف وطرحوا جميعاً اسم الشيخ عبد الغفار ابن الشيخ صالح لكنه طلب من الجميع أن يناموا على نية الوكالة... لمن؟ (بعد أن تقرأ الفاتحة 3 مرات ثم الاتكال على الله على نيّة المقصود) فأتت الرؤية بتكليف الشيخ أبو يوسف كسر لإكمال المسيرةعندما يصل أبو يوسف في الحديث إلى هذه المرحلة يتحسّر على الأيام الماضية ورفاق الدرب في التصوّف ممن أصبحوا ذكرى من الماضي الجميل: مصطفى خليل الرفاعي، قاسم خير الله الرفاعي، نايف الشلّ، محمد علي الدالاتي، حسن كسر، حسين كسر، خليل ياغي، بدر كسر، ابو الياس (ماروني من ايعات) محمد أسعد الشمالي... لكن أبناءه وبناته وأحفاده يشاركونه هذا الإرث.
ففي الزاوية التي يديرها يزدحم الشباب والشيوخ من المريدين، ويتسابقون على الابتهال بالمدائح ومناجاة الله ساعة تدوي أصواتهم بالتجلي والمدائح، فيُخنق السكون بقرع الطبول والدفوف والخليليات مع قيام بعضهم بإدخال السيوف والشيشة في أجسادهم بعد أخذ الإذن من الشيخ. ويطفئ شرب الشاي ثورة المكان مع انتهاء التعليلة، وتختتم السهرة بدرس ديني يقدمه أحد أبناء محمد كسر.



«ليست بدعة»

لا يشعر من يأتي إلى الزاوية بالخوف، لكونهم أجمعوا على «أنّ النفس التي تطيع الله تتذلل أمامها كلّ الصعوبات». غادة غانم من المولعات بالتعليلة وتأتي كل خميس للمشاركة، وكذلك ليلى الرفاعي، وقد وصفتا الزاوية بمنزلهما والحاج كسر بالأب. ويؤكد الأخير «أن الأعمال الصوفيّة ليست بدعة لأن هذا العمل هو لله». ويختصر ما يحصل بأن لكلّ نبي معجزة ولكلّ وليّ كرامة. ويشرح عمله بأنه يتم وفق الطريقة القادرية الرفاعية المنسوبة الى الشيخ عبد القادر الجيلاني والشيخ أحمد الرفاعي: «نكون دائماً في حضرة الشيخ حمود الشوعة الموجود في منطقة الجزيرة، وهو خليفة الشيخ الكبيرخلف حسين الشوعة وهذه الطريقة مبنية على الكتاب والسنّة وإذا رأيتم أحداً يطير في الهواء أو يمشي على وجه الماء من دون أن يكون ملتزماً الكتاب والسنة النبوية فاضربوا به عرض الحائط».