strong> رنا حايك
• عربية تسكن على هامش المدينة ومنظومتها القيمية

على مشارف صحراء الشويفات، قرب الأوتوستراد الجديد والبنى التحتية المستحدثة، تقطن عائلة حسان الفضل مع قطيع من الماشية في أكواخ «زينكو» بنيت على مساحة من الأرض تقع خارج الزمان والمكان

عائلة من البدو الرّحل اختارت من المدينة المطار لتسكن بمحاذاته كأن في صوت إقلاع الطائرات وهبوطها، ومشهدها، تجسيداً لطقس ترحال العرب الدائم الذي لم يعد ممكناً اليوم، فـ«الأرض ضاقت بهم» كما يقول الأب الحاج حسان الفضل.
تضيع التواريخ في ذاكرة ذلك الرجل السبعيني رغم حضور ذهنه القوي وبريق الإرادة الذي لا يزال يشعّ من عينيه. لباسه التقليدي يزيد في هيبته، وتماسك جسده المسنّ يشيع على من حوله إحساساً بالثقة وبالأمان لا بالجبروت والقسوة التي غالباً ما تطلق على البدوي.
يبدأ الحوار مع زوجته التي تقلّب نار «الصوبيا» وحولها اثنتـــــــان من بناتها، مهرة ونجلاء. تشكو من شظف العيش وضيق اليد والحيلة وسنوات التهجير المستمر ومياه الأمطار التي تتسرّب طوال فصل الشتاء من سقف الزينكو الذي يؤويها وعائلتها. تبدو عليها قوة المرأة الفطرية التي قضت حياتها فـــــــي الحقل ولم تسلبها مساحيق التجميل صلابتها الأصلية، لكنها تنسحب تدريجياً من الحديث بخفر نبيل بمجرد دخول الحاج. ويظهر تواطؤ مدهش بينهما، عملية تسلّم وتسليم هادئة يتسلم الحاج بموجبها دفة الحديث: «نحن أصلاً سكان مرجعيون. كان العرب مثل التراب هناك. أبي كان من المتمردين على حكم الأتراك. رفض أن يسجّل نفوسه لدى حكومة تستولي ببطشها على أرزاق الناس يومياً وتجبرهم على العمل بالسخرة، فلم أحظ بالهوية اللبنانية رغم أنني لبناني أكثر من معظم النواب اللبنانيين اليوم. بقينا مكتومي القيد حتى عام 1984 حين صدر مرسوم تجنيس منحنا أنا وأبنائي الجنسية اللبنانيةالفضل لبناني أكثر من كثير من اللبنانيين. جاب وديان هذا البلد وجباله من الشمال إلى الجنوب سيراً على الأقدام، نام في الحقول أثناء الرحلات الطويلة فتمرّغ بترابه وبنى علاقة إلفة مع كل شبر من مساحته. بالنسبة إليه، لبنان «كفّ عسل، الجميع يتوحمون عليه». لا يشكو الحاج من أية مضايقات عنصرية من أبناء هذا البلد، لم يتعرّض لأي منها حتى قبل أن ينال هو وعائلته الجنسية اللبنانية، فهذا البلد احتضنه، لكن حروبه المتتالية هي التي أرهقته.
حتى البيت الذي عمّره في مرجعيون حين قرّر التشبه بأسلوب حياة الحضر، لم يقطنه سوى لنحو شهرين، فقد دمّر عام 1975 ولا يزال مدمراً حتى اليوم.
بعد الهروب الأول من القصف الإسرائيلي على الحدود اللبنانية عام 1975، استقرت العائلة في البقاع، لكن هروباً ثانياً ما لبث أن حلّ، هذه المرة من الصقيع. وكانت العاصمة هي الوجهة التي قصدها الحاج بصحبة عائلته ومواشيه سيراً على الأقدام. وبعد العاصمة، قصر المير مجيد أرسلان، الذي كانت تربطه بالحاج علاقة يسميها «صداقات». قصده وشرح له وضعه، ففي رقبته عائلة من عشرة أنفار ومئتا رأس من الماشية. قال له المير: «اقعد وين ما بدك وما حدا بيسترجي يحكي معاك ولا كلمة». وفعلاً، اختار حسان قطعة أرض بور ملك الدولة اللبنانية في صحراء الشويفات، نصبوا شادراً قضوا فيه لياليهم حتى أتموا بناء الكوخ الذي سيحتضنهم حتى عام 1982.
ففي ذلك العام، اشتعل الجبل، حرب الجيش والاشتراكيين «خربت بيت الحاج حسان» كما يذكر بغضب لم يخمد بعد: «200 راس غنم راحوا». لم تتوقف لعنة الترحال عن ملاحقة ذلك البدوي، ورغم أنها من صميم تقاليده وأسلوب حياته، إلا أنها قلّما تكون محكومة بظروف الحرب كما هي الحال في لبنان.
عادت عائلة الفضل إلى البقاع لبعض الوقت، كان بعدها الاستقرار النهائي في الشويفات، وإعادة «تأسيس» القطيع بالدّين بادئ الأمر ومن ثم ببيع الحليب والغنم لمحال السمانة والجزارين المجاورين.
«هذه ليست عيشتنا» يقول الحاج. «نحن عرب، لا نعيش في بيوت من تنك، بل في شوادر شعر (من شعر الماعز) طول الواحد منها 40 متراً، لم نستطع نصبها هنا لأن نسيم البحر لا يناسبها».
يفتقد الحاج حسان شوادر العرب، ويتأسّف لانتقال معظم معارفه منهم للسكن في بيوت الحضر. عملوا في قطاع التجارة خلال سنوات الحرب الأهلية الطويلة، باعوا «طرشاتهم» (أي مواشيهم)، واشتروا أراضي خلال فترة هبوط الأسعار في سوق العقارات بنوا عليها بيوتاً سكنوا فيها. أقاربه سكنوا جميعاً في منطقة المصيلح في الجنوب، ومنذ سكنوا في هذه البيوت، حلّت اللعنة على تقاليدهم
العربية.
الكرم ما زال من شيمهم، لكن أسلوب حياتهم الحضرية والظروف قلّصت كثيراً طقوس ممارسته. فالـ«شقق» (ولا يسميها بيوتاً) التي سكنوا فيها لم تعد تسمح لهم بإقامة الذبائح واستضافة العشيرة كلها إكراماً للضيف الذي يحل على أحدهم. أما سبب المشكلة في تدهور القيم والتقاليد العربية، فهو المرأة لأنها «حكمت الرجل ما إن انتقل العرب إلى السكن في منازل مسقوفة». فقد أصبحت النساء تتأففن من الضيوف في منزل بلاطه رخامي يحتاج إلى تنظيفكما فرضن على رجالهن نمط الحياة الحضري فأصبحن يظهرن أمام الرجال ويطالبن بحق العمل ويدخّنّ السجائر. وهذه كلها أمور معيبة بالنسبة للحاج. فالمرأة لا تظهر على الرجال، أم العريس تراها وتختارها له، ويمنع من رؤيتها حتى موعد عقد القران، كذلك هي لا تعمل. كل العرب لم يكونوا يعملون، حتى الرجال منهم. كان الأغنياء، ممن يمتلكون قطعاناً، يستخدمون أجراء من فقراء قومهم ليديروا لهم أعمالهم.
لم يتخلّ الحاج عن تراثه العربي رغم اكتسابه مرونة نسبية فرضتها عليه حياته في المدينة. فبناته ارتدن المدارس. مهرة ونجلا وصلتا إلى الصفوف التكميلية في مدارس المقاصد في خلدة، ولم تكملا علمهما. فرغم تدنّي قيمة الأقساط التي أتاحت للحاج تعليمهما، وصل إلى مرحلة لم يستطع بعدها مواصلة دفع التكاليف.
تبوح نجلا، التي تبلغ الثامنة عشرة من عمرها، إنها كانت تودّ أن تنهي سنوات الدراسة كاملة وتعمل في وظيفة ما، لكن بوحها هذا تصاحبه حمرة في الوجنتين وصوت خافت مع انحناءة للرأس تنمّ عن انكسار واضح لا يشوبه تمرد بل خضوع طوعي لروتينية نهارات تنقضي أمام شاشة التلفزيون. وتصاحب هذا البوح ابتسامة مرتبكة من الوالدة التي سرعان ما تردف: «الحاج لا يسمح بعمل البنات».
عندها يتدخّل الحاج ليؤكد أن نجلا سعيدة بحياتها وأنه يمنعها من العمل حفاظاً عليها، فـ: «الرجّال حر، بيضهر رجال وبيرجع رجال، أما الحرمة فلا، والحفاظ على العرض هو أهم قيمة عربية». تقضي نجلا أيامها أمام شاشة التلفزيون، تشاهد الأفلام والمسلسلات العربية، لا الأميركية، لأنها لا تفهم لغتها ولأن الحاج «لا يحب الأميركان ومش صحبة معهم» يسارع للقول. تتابع هي وأختها ووالدتهما بشغف مسلسل «باب الحارة» ويقضين الوقت معاً يتعاونّ على الطبخ ورعاية المواشي وتحضير المؤونة من كبيس وزيتون
وباذنجان.
في صحراء الشويفات عائلة تعيش خارج حدود الزمان والمكان، لا تزال تحافظ على نوع من الاتساق مع الذات أصبح تحقيقه هذه الأيام مرتبطاً بالتزام نوع من العزلة والانغلاق أمام رياح قيم ملتبسة تأتي من كل صوب، وتربك منظومة القيم التي تحكم حياة الأشخاص «المعولمة» مهما اختلفت درجة وعيهم.



ركوة عرب

يرتبط شرب القهوة ارتباطاً وثيقاً بالتراث العربي، وتمتاز القهوة العربية بطعمها الحادّ. مع الوقت، بدأت صناعتها بالاتجاه نحو تخفيف حدة هذا الطعم في المدن الأكثر تأثراً بالحضارات الغربية. فبعد أن كانت زوائدها تحتوي الهال والقرنفل والزعفران والزنجبيل والقرفة، أصبحت تقتصر على الهال أو تكتفي بالبن المطحون فقط.
الحاج حسان لا يزال يشرب القهوة على طريقة أجداده. وبصفته «شرّيباً محترفاً»، يعدّها بنفسه على طريقته. يشتري حبّ البن الأخضر ويحمّصه في البيت حتى يصبح أشقر. بعد التحميص، يدقّ حبيبات البن بالمهباج حتى تصبح ناعمة ثم يضيفها إلى «الخميرة». والخميرة هي ما نسميه «التّفل»، يحتفظ به من «آخر طبخة» أي آخر ركوة غلاها. يضع المزيج على نار هادئة لمدة نصف ساعة، ثم يضيف إليه الهال المدقوق ويستخدم الطبخة الجديدة لصنع 3 أو 4 ركاو، ويعيد الكرّة كل يومين.