جان عزيز
في الفترة التي شهدت ولادة لبنان الكبير، كان يقال إن في منطقة المشرق 5 جماعات «قومية»، بمفهوم ذلك الزمن، أو «إثنو ــــ ثقافية» بمفهوم عصر هانتنغتون، تسعى الى أن تصير دولاً، أو أن تستكمل كياناتها الدولتية. وهذه الجماعات هي الآتية: اليهود، العلويون، الأرمن، الأكراد، والموارنة. وكان السباق بين الجماعات الخمس متباين السرعة والتقدم نحو إنجاز هدف كل منها. فالأرمن والأكراد كانوا في أسفل السلّم، نظراً إلى خروجهما الحديث من نكبتيهما «القوميتين»، وإلى عدم وجود أي «منتصر» إقليمي أو دولي يرعى مشاريعهم.
أما اليهود فبدوا الأكثر تقدماً في ذلك، بعدما تمكنوا من استثمار نكبتهم في سياق لحظة التحول، فيما العلويون والموارنة، كانوا في مرتبة وسطى بين المتقدمين والمتخلفين، بسبب حرصهم على تغليف مشاريعهم بعناوين تسويقية مغايرة. لكن في الواقع العملي لمنطقة المشرق، كل القوى الدولية كانت تدرك هذا الطابع «الأقلياتي» للمسألة الشرقية الحديثة، وهذا ما كان يشجع تلك الجماعات على الخروج أحياناً عن تقيتها وخوفها الباطني، فتكتب مجموعة مارونية مذكرة «لبنان وطن قومي للمسيحيين في الشرق»، وتكتب مجموعة علوية أخرى مطالبة بالمثل، فيما كان الخطاب الصهيوني واضحاً في «ذاتيته» منذ البدء، رغم كل علمانية هرتزل.
المهم، أنه في حمأة ذاك الصراع المحموم، كانت المفاجأة أن رابح السباق كان الموارنة. فقبل أي من الجماعات الأخرى، وحتى قبل اليهود، الذين كانوا قد حققوا وعد بلفور سنة 1917، نجح الموارنة ومعهم مسيحيو جبل لبنان، في تحقيق «وطن» سنة 1920. صحيح أن الكثير كتب عن علة وجود ذاك الكيان، وصحيح أن ثمة معادلة مريحة للجميع استنبطت لاحقاً، لجهة القول إن لبنان خلق بسبب موارنته، لا من أجلهم، لكن الصحيح أيضاً أن ثمة وعياً راسخاً تكوّن لدى الموارنة، بأن لحظة الأول من أيلول 1920، جاءت تتويجاً لبلورة تاريخية وتدريجية للوجدان المسيحي الكياني، والذي بدأ مع الإمارة وتطور عبر القائمقاميتين فالمتصرفية فلبنان الكبير.
وعاش الكيان، وسط ظروف دائمة الهشاشة والعطوبة، وكانت مشكلته الدائمة ذاك الانطباع بأنه منتقص المشروعية لسببين أساسيين: أولاً عدم قدرته على تحقيق كامل لذاتية مسلميه العروبية. وثانياً عدم قدرة مسيحييه على التماهي، أو التضامن بحد أدنى، مع قضايا محيطه. والسببان المذكوران عرفا تفاقماً كبيراً في استعارهما، بعد نشوء دولة إسرائيل. ذلك أن الشعور القومي للمسلمين في لبنان بات أكثر حساسية بعد النكبة، والاتهام للمسيحيين في لبنان بعدم التزام «القضية المركزية للعرب»، صار أكثر جهوزية للاستخدام والاستثمار.
هكذا توالدت كل أزمات الوطن الناشئ على هذا الفالق الوجداني بين جماعتيه، منذ عام 1958 حتى 1975، مروراً بكل هزات الستينيات الارتدادية، فأياً كانت عوامل التفجير المساعدة، وأياً كانت الأسباب المتراكمة والمتراكبة، ثمة صورة بيانية ستظل راسخة لحظة التأريخ، وهي أن «الكيان المسيحي» انفجر في 13 نيسان 1975، وسط عدم قدرة «أصحابه» على التزام قضية منطقتهم الأولى، أي القضية الفلسطينية. عدم القدرة هذه حملت طيلة عقد ونصف اتهامين اثنين كبيرين: الالتباس في عداء مسيحيي لبنان حيال إسرائيل، والالتباس في موقفهم إزاء الفلسطينيين. هكذا وسط صراع القطبين الدوليين، وحروب الشرق الأوسط الساخنة، والنزاع على بنية النظام اللبناني، دفع المسيحيون كيانهم ثمناً، فانفجر وتداعى وترنح، وكاد يسقط نهائياً...
دار الزمان في عقود ثلاثة، تغيّر فيها كل شيء، لا صراع القطبين الدوليين هنا، ولا الحروب العربية ـــــ الإسرائيلية، هنا، ولا حتى النزاع بشأن أساسيات الكيان اللبناني هنا. ففي العقد الأخير من القرن الماضي سادت الأحادية في قريتنا الكونية، وما لبثت أن تحولت معها حروبنا الإقليمية إلى مسارات سلام أحادية أيضاً، وتهافت عربي نحو الحلول من وادي عربة ووادي بلانتايشن، إلى أوسلو وكامب دايفيد. وبالتزامن، حسمت مسائل النظام الجوهرية لأهل بيروت، من مصيف الطائف: لبنان عربي الهوية والانتماء، ميثاق عيش مشترك على أساس «التساوي» شرط شرعية أي سلطة، وحسم لهويات الأصدقاء والأعداء.
دار الزمان دورة 3 عقود، ليجد المسيحيون أنفسهم ضد إسرائيل في آخر حروبها العربية، وليجدوا أنفسهم ضد أي تسوية للفلسطينيين لا تكرس حق عودتهم الكاملة إلى أرضهم. لكن المفاجأة الذروة، كانت أن يجد المسيحيون أنفسهم يدفعون مرة ثانية، ثمناً كيانياً عظيماً، نتيجة موقفيهم هذين بالذات، والأنكى أن يصار إلى تدفيعهم الثمن، برعاية عربية رسمية أيضاً، فلا تكريس لموقع وازن لرئاستهم للدولة، ولا إقرار بتوازنهم في حكمها وإدارتها، هذا هو التفسير القاطع والنهائي، قالها عمرو موسى.
قبل 30 عاماً فُجّر الكيان المسيحي لأن أهله ليسوا اعداء كفاية لإسرائيل، ولأنهم متهمون بالتآمر على الفلسطينيين، بعد 30 عاماً هل يجهز عليه وعليهم لأنهم صمدوا في وجه آخر حرب اسرائيلية؟ سخرية قدر؟ قد يكون الأصح قدرية ساخرين بالحقوق والشعوب والكيانات.