نيويورك ــ نزار عبود
بالرغم من الاستعجال الرسمي اللبناني لإنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، يبدو أن الدول المهتمة بهذه القضية تتريث في تأمين التزاماتها بغية استخدامها لغايات خاصة. فهل تشارك الدول الأعضاء في الأمم المتحدة لبنانَ الحماسة نفسها بإنشاء المحكمة، أم أن حساباتها مختلفة؟


يتوقف إنشاء محكمة لبنان الدولية الخاصة باغتيال الرئيس رفيق الحريري، بعد وقوع الاختيار على المبنى والقضاة الذين لم تعلن أسماؤهم بعد، على توفير التمويل اللازم للسنين الثلاث الأولى. من بعدها، يبرم البرلمان الهولندي معاهدة مقر المحكمة في لاهاي مع الأمم المتحدة. لكن التمويل الذي وُفِّر في صندوق التبرعات الذي أنشأته الأمم المتحدة، لا يغطي أكثر من 64.3 في المئة من نفقات السنة الأولى الأساسية حسب ما أفادت مصادر موثوقة لـ«الأخبار». وهنا يُطرح سؤالان: لماذا اقتصر الإيداع في صندوق التبرعات على الولايات المتحدة ولبنان فقط؟ ولماذا هدّد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي أثناء زيارته القاهرة قبل أسبوعين بإعطاء الإشارة بدفع المال للمحكمة إذا لم تقدم سوريا «نتائج ملموسة»، وتمارس ضغوطاً على المعارضة اللبنانية بشأن الأزمة الرئاسية؟
وكان الأمين العام للأمم المتحدة قد بعث بدعوات إلى الدول الأعضاء في المنظمة الدولية لتقديم مساهمات للمحكمة التي أُقرت في مجلس الأمن الدولي، وذلك للبدء في تعيين القضاة وصرف الرواتب لهم بهدف البدء بمزاولة نشاطهم، لأن ذلك لن يحصل قبل تأمين ما يكفي من التمويل للانطلاق. فنفقات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان قيست مقارنة بنفقات محاكم دولية أخرى مثل محكمة سيراليون، وقد قدرت ما بين 120 و128 مليون دولار للسنوات الثلاث الأولى، تتحمل الحكومة اللبنانية 49 في المئة منها، على أن تتوافر المبالغ الباقية من مساهمات تتقدم بها أي دولة من الدول الـ 192 الأعضاء في الأمم المتحدة، بما في ذلك إسرائيل.
وفي الإطار، كان الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون قد أوضح في تقريره عن المحكمة الدولية بتاريخ 7 أيلول 2007 أن الحد الأدنى المطلوب لنفقات السنة الأولى هو 35 مليون دولار، وأنه يوجد تعهدات رسمية مؤكدة بقيمة تتراوح ما بين 85 إلى 93 مليون دولار لتغطية نفقات السنتين الثانية والثالثة. وقد بنيت هذه الأرقام على تقدير أن نفقة السنة الثانية 45 مليوناً، فيما تتطلب السنة الثالثة 40 مليوناً. أما إذا تقرر إنشاء قاعة محاكمة ثانية، فإن المبلغ سيرتفع بنحو 8 ملايين، وهذه يجب أن تدفع فوراً إلى جانب نفقات السنة الأولى (35 مليون دولار).
أمام كل ما تقدم، فإن الدول الأعضاء لم تستجب لطلب الأمين العام بالمساهمة الكاملة حتى الآن، وذلك حسب آخر المعطيات التي حصلت عليها «الأخبار» من الأمم المتحدة. وعليه، يبقى أن الدولتين الوحيدتين اللتين التزمتا وأدّتا حصتيهما هما لبنان والولايات المتحدة، ما يجعل عجز صندوق المحكمة الدولية بنسبة 17 في المئة من التعهدات الإجمالية للسنوات الثلاث الأولى، مع الإشارة إلى أن العجز في السنة الأولى وحدها يبلغ نسبة 35 في المئة.
من جهة أخرى، فإن التصريحات الدولية الرسمية لا تزال كلها تؤكد أن المشكلة ليست بالتمويل، متذرعة بأن دولاً كثيرة تقدمت بالتزامات، ولا تزال الالتزامات الأخرى تتوالى، الأمر الذي جعل المندوب الأميركي في الأمم المتحدة زلماي خليل زاد يتوقع قبل مطلع السنة الحالية انطلاق المحكمة في وقت قريب (يُرجّح شباط المقبل).
ووفقاً لأجوبة رسمية مصدرها الأمم المتحدة (وجهت «الأخبار» أسئلة عديدة إلى الأمم المتحدة، وقد تلقت ردوداً عليها) فقد وصل إلى صندوق الائتمان الدولي حتى نهاية الدوام يوم الجمعة الماضي ما يساوي 64.3 في المئة من أصل 35 مليون دولار (أي نحو 22 مليون دولار) «بما في ذلك مساهمة من الحكومة اللبنانية بنسبة 49 في المئة من التقدير الإجمالي للسنة الأولى». معنى ذلك، أن الحكومة اللبنانية وحدها قدمت 17 مليون دولار، فضلاً عن 5 ملايين دولار مساهمة الولايات المتحدة المعلنة على لسان مندوبها لدى المنظمة الدولية، خليل زاد، وغيره. وتوضح قيمة المساهمات التي وردت في الرد أن ما تناقلته المعلومات عن تقديم فرنسا مساهمة بقيمة ثمانية ملايين دولار، يبقى في دائرة الشائعات، وأن فرنسا اكتفت بالتعهد ولم تودع أي مبلغ بعد، ما يدفع للتساؤل عن السبب في ذلك، وخصوصاً أنها كانت من أكثر الدول حماسة لإنشاء المحكمة. وإذا كانت الأمم المتحدة قد رفضت تقديم أرقام محددة، إلا أن ما قدمته من معلومات لـ«الأخبار» يؤكد أن الحكومة اللبنانية «أوفت بالتزاماتها البالغة 49 في المئة». أما بالنسبة إلى التعهدات المطروحة، فأكدت بيانات المنظمة الدولية أن هناك تعهدات إجمالية لتمويل المحكمة بلغت 83 في المئة بالنسبة إلى السنوات الثلاث الأولى.
رغم ما تقدم، تقول الأمم المتحدة إن الموارد المالية المتاحة «كافية لتمويل معظم احتياجات السنة الأولى، وإنها تواصل التباحث مع الدول الأعضاء وتحثهم على تقديم الدعم ومساهماتهم لتمويل المحكمة من أجل تغطية المبالغ الباقية لعمليات السنة الأولى، فضلاً عن التعهدات المطلوبة للسنتين الثانية والثالثة». وأعربت الأمم المتحدة في ردها المكتوب على استفسارات «الأخبار» عن أملها تأمين التمويل من عدد من الدول المتبرعة. ووعدت بتأمين قائمة بأسماء الدول المساهمة «بعد تأكيد التعهدات والاهتمامات بالمساهمة من الدول». ورأت أن استجابة الدول لمناشدة تمويل المحكمة يمثّل «مطلباً أساسياً لفاعليتها ونجاحها».
تجدر الإشارة إلى أن الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون كان قد عبّر في أوائل الشهر الجاري عن تفاؤله بالتقدم على طريق إنشاء المحكمة الدولية. لكنه قال إنه لا يستطيع السير بخطى أسرع في إنشائها ما دام هناك عجز في التمويل (قدّره حينها بنحو 45 مليوناً) دولار، وقبل تأمين التمويل الكافي للسنوات الثلاث. وأشار إلى أنه بدون تأمين هذين الشرطين لن يبرم البرلمان الهولندي معاهدة مقر المحكمة الموقعة بين الحكومة الهولندية والأمم المتحدة بعد تخلي لبنان عن ذلك الدور، تأكيداً للتدويل الكامل للسيادة اللبنانية.
وللتذكير، فإن المادة ٥ من نصّ الاتفاق بين الأمم المتحدة والحكومة اللبنانية حول قانون إنشاء المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، تنصّ هذه على أن «يكون تحمل نفقات المحكمة الخاصة على النحو الآتي: (أ) تُحمّل نسبة واحد وخمسين في المئة من النفقات للتبرعات الواردة من الدول؛ (ب) تتحمل حكومة لبنان تسعة وأربعين في المئة من نفقات المحكمة». كما تضيف المادة نفسها في الفقرة الثانية أن «الأمين العام سيبدأ عملية إنشاء المحكمة متى ما توافرت لديه مساهمات فعلية كافية لتمويل إنشاء المحكمة وعملها لمدة اثني عشر شهراً، فضلاً عن تبرعات معلنة تعادل النفقات المتوقعة لفترة الـ ٢٤ شهراً التالية من عمل المحكمة».