أنطوان سعد
بعد استكانة موجة التصعيد على الموقع البطريركي الماروني، لاحظت أوساط قريبة من البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير أن ثمة نقاطاً تستوجب الإضاءة عليها بغية توضيح بعض الالتباسات الناتجة من هذه الموجة، وهي تُقرُّ بأن الإشكال الدائر حول انتخابات رئاسة الجمهورية، قد أظهر أهمية هذه الرئاسة في المعادلة اللبنانية من خلال الشلل الحاصل وعدم التمكن من الاستغناء عنها، وعزّز نظرياً موقع رئيس الجمهورية عبر التشديد على حقه بتسمية عدد من الوزراء بات يتراوح الآن، على ما يبدو، بين ثمانية وعشرة وزراء.
غير أن هذه الأوساط ترى أن وجهة نظر سيد بكركي من الإصرار على تقديم أولوية انتخاب رئيس الجمهورية على أية أولوية أخرى، بعيدة النظر وتستند إلى الأمثولات التي يفترض استخلاصها من تاريخ لبنان المعاصر. وينبغي، بحسب هذه المصادر، للاعبين السياسيين المسيحيين التروي كثيراً قبل ادعائهم الحرص على مصلحة المسيحيين عموماً، والموارنة خصوصاً، أكثر من البطريرك الماروني الذي لا طموحات له سوى إنهاء حبريته على الشكل الذي يرضي ضميره. فيما طموحات منتقديه الوزارية والرئاسية والنيابية المباشرة شديدة الوضوح ولا مجال بالطبع للمفاضلة بين بكركي ومعارضيها لجهة التجرد.
انطلاقاً مما سبق، ترى الأوساط القريبة من البطريرك صفير أن ثمة ضرورة للإشارة إلى المسائل الآتية:
ـــــ أولاً، حتى الساعة، كل المكتسبات المحققة منذ خلو المنصب الأول في الدولة اللبنانية لموقع رئاسة الجمهورية لا تزال بمثابة شيك غير قابل للصرف. ويخشى، في حال انسداد الآفاق ونجاح مساعي بعض الجهات، أن يحصل الاتفاق بين الطرفين المتنازعين على تقاسم السلطة والحصص بينهما والعودة إلى الحال التي سادت إبان زمن الهيمنة السورية وفي الفترة التي تلتها، أي بعث التحالف الرباعي. بكلام آخر لا يمكن التمادي بلعب صولد يخسر بنتيجته المعارضون المسيحيون كل شيء، كما حصل في عام 1989 عند رفض اتفاق الطائف بحجة معارضته لتحسين تبعاته.
ـــــ ثانياً، إن حال الفراغ الرئاسي أخطر بكثير مما يمكن توقعه إذا طالت، وخصوصاً في ظل تشكيك المعارضة بشرعية حكومة الرئيس فؤاد السنيورة. فالتجربة تدل على أن كل أنواع المطبات واردة في هذه الحال. ولا يمكن التعويل كثيراً على الهدوء الأمني الذي يصحب الفراغ منذ الرابع والعشرين من تشرين الثاني الماضي للتأكيد على أن لا مجال للتدهور. فالفراغ سنة 1988 بقي هادئاً من الثاني والعشرين من أيلول وحتى أوساط شباط 1989. وبعد ذلك فتح الفراغ الباب لكل أنواع التقاتل.
ـــــ ثالثاً، حتى لو سلّم سيد بكركي جدلاً، وهو في الواقع لا يُسلّم، بأن ما تقوم به المعارضة المسيحية من تعطيل لعملية الانتخابات الرئاسية عبر ربطها بالشروط المعروفة، هو مفيد لتعزيز موقع رئاسة الجمهورية، وبالتالي مشاركة المسيحيين في عملية إدارة شؤون الدولة، فإن البطريرك صفير لن يقبل أبداً بجر المسيحيين إلى تحالف مع طائفة دون أخرى. فلو أنه انضم إلى مطالب المعارضة إلى جانب العماد ميشال عون صاحب التمثيل الشعبي الأكبر، فسيُعتبر إذّاك المسيحيون بالتالي منحازين في الصراع الدائر بين السنة والشيعة في لبنان، وربما أبعد من لبنان، لأن المسيحيين في الأكثرية لن يكونوا في هذه الحال قادرين على إعطاء صبغة مسيحية للجانب الذي يتحالفون معه.
ـــــ رابعاً، إن الاستقرار السياسي والأمني في مناخ من الحرية والانفتاح والمساواة أشد أهمية للمسيحيين من صلاحيات رئيس الجمهورية. فعندما هاجر العدد الأكبر من المسيحيين من لبنان كانت صلاحيات الرئاسة نظرياً شبيهة بصلاحيات الحاكم في النظام الرئاسي، وربما كانت تفوقها في بعض الجوانب.
ـــــ خامساً، عندما تتألف كل من الكتلتين المتنازعتين سياسياً من كل الطوائف اللبنانية، لا يرى البطريرك صفير ضرورة ملحة لتكريس نص دستوري يعطي رئيس الجمهورية حصة معينة في مجلس الوزراء، ولا سيما أنه يخشى أن تكون وراء هذه المطالبة نية في إحداث تصعيد سياسي على قواعد طائفية من شأنه أن يؤخر عودة الاستقرار إلى الربوع اللبنانية. فهو ما فتئ يعيد اللبنانيين بالذاكرة إلى زمن الكتلتين الوطنية والدستورية المؤلفتين من كل الطوائف واللتين حصرتا كل نزاع في لبنان في دائرة التنافس السياسي، لا التقاتل الطائفي.
بناءً على هذه الملاحظات، تعرب الأوساط القريبة من البطريرك صفير عن تمنيها على اللاعبين السياسيين كافة التريث وقراءة تاريخ لبنان والاتعاظ به قبل الإقدام على ما قد يُندَم عليه.