راجانا حمية
لا شيء إلى اليوم يقي الأطفال من العنف، فلا القانون يحميهم ولا المؤسّسات الرسمية والتعليميّة بسبب الغياب الفاضح للدراسات التي تجريها جمعيات خاصة بشكل مستقلّ

لم تنسَ ماريا قصّتها. تختزن فصولها بالتفاصيل من دون أن تجرؤ على روايتها لأحد. تفضّل أن تعيشها وحيدة على أن تفضح ألمها أمام «الغرباء». ماريا، التي عاشت الخوف في مراهقتها بسبب ثلاثة أشخاصٍ «اغتصبوا» أحلامها، كانت قويّة بما يكفيها لتحتفظ بقصّتها، مكتفية بالردّ على السؤال عن «العنف الجنسي» الذي تعرّضت له في فترة سابقة من حياتها بجوابٍ لا يخلو من الحقد على من يحاول «التنصّت» على آلامها «إذا أخبرت قصتي، فماذا سيتغيّر في حياتي؟ ستُنشر على أوراق الصحف ليعلم بها الجميع؟».

أزمة ثقة

لم تُخبر ماريا قصّتها، التي عرفنا بها مصادفة، ولن تُخبرها. فهي التي عاشتها دون سواها خمس سنوات في إحدى المدارس في منطقة جبيل، وكانت خلال تلك السنوات تتعرّض للتحرّش الجنسي والضرب من أحد مدرّسيها ومدير مدرستها الذي عمل على إبقائها في صفّها خمس مرّات، وهدّدها أكثر من مرة بحرمانها من الإفادة إن عارضته في طلباته. عانت ماريا بين رفاقها، فكانت تضطرّ في أحيانٍ كثيرة إلى الهرب من الصف قبل انتهاء الحصّة خوفاً من «استفراد» الأستاذ بها بعد خروج الرفاق أو ضربها.
خمس سنواتٍ كانت كافية لتنسى ماريا أحلاماً كثيرة، مكتفية بحلم الخروج من المدرسة «ولو كان إلى جهنّم». خرجت منها وهي لا تعرف القراءة والكتابة، بناءً على قرار حماية من مؤسّسة «كفى عنف واستغلال» لكنّها لم تتمكّن في بادئ الأمر من مواجهة قصّتها، فكانت ردّة فعلها الأولى إقامة علاقات عابرة مع الشبّان انتقاماً، وصلت بها حدّ التشكيك في هويّتها الجنسيّة. وعندما رغبت ابنة الستّة عشر عاماً بتغيير حياتها، وافقت على طلب أحد الشباب بالزواج والسفر معه إلى الخارج، غير أنّ الأمور لم تكن كما خطّطت لها، إذ تبين لاحقاً أنّ «حبيبها» كان يسعى لتشغيلها في «الدعارة».
صدمة أخرى، بعد سنوات المدرسة، لم تستطع معها ماريا السيطرة على خياراتها، فظلّت أسيرة غرفتها وقصّتها إلى أن قرّرت ذات يومٍ اللجوء إلى إحدى مؤسّسات الرعاية الداخليّة، علّها تجد هناك من يقاسمها حزنها وضياعها، وبقيت فيها إلى أن بلغت الثامنة عشرة من عمرها.
كثيرون يشبهون ماريا في قصصهم... وفي صمتهم. يحتفظون بآلامهم لأنفسهم لأنّهم يخافون من الثقة التي قد يعطونها لأحدهم، فلربّما يكون هذا «الأحد» كمن حاك لهم القصّة. يخافون إلى الدرجة التي باتوا معها لا يتقنون سوى الشك من أيّ «غريبٍ» قد يقتحم خلوتهم.

أحلام خائفة

في جمعيّة «دار الطفل اللبناني»، حيث يمضي الأطفال «المعنّفون» غالبيّة أوقاتهم بعد المدرسة، حاولنا التحدّث معهم عمّا يعرفونه عن موضوع العنف وحقوق الإنسان. حضروا جميعاً بناءً على طلب المرشدة الاجتماعيّة، لكن أحداً منهم لم يجرؤ على الكلام، فكانت نظراتهم مصوّبة نحونا نحن «الغرباء» تارة ونحو ماري (المرشدة الاجتماعية) تارة أخرى. يبتسمون ويهمسون في آذان بعضهم من دون أن يجيبوا، ومن اختار الحديث منهم اختصر أحلامه، مثل رامي الذي يحلم «ببيتٍ وهويّة وأمان»، وجميلة التي تفضّل البقاء في المدرسة مع الرفاق في العطلة الأسبوعيّة على أن تكون في البيت «فهناك أجد من يفهمني ويساعدني». وثمّة من لم يجدوا الراحة في المكانين مثل جورج الذي أُجبر على أن يُمضي غالبيّة وقته بين عمله والشارع، وروي وعلي... كلّهم يحلمون بغير ما يعيشونه.
أما ميرنا فتحرص على المشاركة في الجلسة ورواية قصة صديقة لها، قد تكون شبيهة في بعض فصولها بقصّتها المخفيّة. تنحاز للفتاة «التي تعرّضت للاغتصاب وشقيقتها الصغيرة من قبل شقيقهما، فيما والداها اللذان يعانيان تأخّراً عقلياً لا يجرؤان على إخبار أحد، وذلك لأنّ الشقيق هو المعيل الوحيد، وما فعلته الفتاة أنّها تزوّجت أوّل رجل صادفته، وهي الآن أمّ لثلاث فتيات في السادسة عشرة.
وثمّة قصص أخرى قد تُجبر أصحابها على الصمت، ليس خوفاً أو خجلاً إنّما بسبب الصدمة والضرب. ففي إحدى المدارس الرسميّة في وطى المصيطبة، أصيبت «ديما»، ابنة الثماني سنوات، بنزف في أنفها، بعدما ضربتها مدرّستها لأنّها كانت تتكلّم أثناء شرح الدرس. لم تقتصر إصابتها على النزف، إذ دخلت في حالة «تروما» لم تستطع الخروج منها إلا بعد جلساتٍ علاجيّة ونفسيّة. غير أنّ حالة ديما لم تكن الوحيدة في تلك المدرسة، فقد سبقها كثيرون في تجاربهم مع العنف والمدرّسين، ومازن واحد من هؤلاء الذي أجبرهم ناظر مدرسته الرسميّة في الأشرفية على البقاء حافي القدمين في الصفّ لأكثر من أسبوع، لمجرد أنّ لون حذائه لم يكن أسود بحسب التعليمات، رغم أنّه يعرف ظروف عائلة الطفل الاقتصادية الصعبة.
قصص كثيرة لحالات عنفٍ يخاف أصحابها والمقرّبون الإعلان عنها خوفاً من العقاب وما قد يقوله الناس عن «فتاةٍ تعرّضت لاغتصاب» أو «شاب مدمن أجبر على العيش في الشارع»، لذلك يبقى معظمها طيّ الكتمان، باستثناء بعضها الذي باتت مسؤولية الكشف عنها، في حالات العنف الشديدة، منوطة بالمرشدات الاجتماعيات ومؤسّسات الرعاية الداخلية والجمعيات ووزارة الشؤون الاجتماعية، التي تغيب عن حساباتها المعلومات الدقيقة حول نسبة العنف ضدّ الأطفال.

«كفى عنف»

ففي لبنان، لا تملك أيّ من المؤسّسات المعنيّة بالأطفال المعنّفين إحصاءاتٍ دقيقة عن أشكال العنف، باستثناء دراسةٍ «يتيمة» أجرتها وزارة العدل منذ خمس سنوات. لكن تزايد حالات العنف في الوقت الراهن، دفع بعضها إلى إجراء دراسات مفصّلة، بالتعاون مع منظّمات وجمعيّات دوليّة. وفي هذا الإطار، تنوي جمعيّة «كفى عنف واستغلال» إنهاء دراستها الوطنيّة حول مستوى الإساءة الجنسية، بالشراكة مع «المجلس الأعلى للطفولة» و«جمعية غوث الأطفال ـ السويد»، على أن تدخل نتائجها ضمن الخطّة الاستراتيجيّة لمناهضة العنف ضد الطفل وخاصّة التحرش الجنسي للعام 2008 ـ 2009 كما توضح المرشدة الاجتماعية في «كفى عنف واستغلال» غيدا عناني.
وتشمل الدراسة عيّنة عشوائيّة من 1035 طفلاً من جميع المحافظات اللبنانيّة. واللافت في النتيجة الأوّلية أنّ نسبة 16,1% من الأطفال يتعرّضون على الأقل لشكل من أشكال الإساءة الجنسيّة، سواء الكلامية منها أو الملامسات أو محاولة الاغتصاب أو استخدام الأطفال في المواد الإباحية. غير أنّ هذه النسبة لن تكون الأخيرة، إذ تلفت غيدا عناني إلى أنّ غالبيّة الأطفال المعنّفين يعرفون آلامهم ولا يبلّغون عنها لأنّهم يجهلون حقوقهم أو أنّهم مهدّدون، لذلك تبقى معظم النتائج «أوّلية أو قريبة من الواقع، وتختلف من منطقةٍ إلى أخرى بسبب خاصيّة كل منطقة».
وتعترف عناني بأنّ النتائج ستبقى قريبة، لأسبابٍ كثيرة، أهمّها أنّ معظم المعنِّفين والمعنَّفين من عائلةٍ واحدة، «لا يجرؤون على الإخبار إلا عندما تصل حالة العنف إلى أقصاها، وعند هذا الحد تتّخذ الجمعيّة، بمساعدة الوزارات المعنيّة والقانون، الإجراءات اللازمة، فإمّا مؤسّسة داخليّة إذا فُقد الأمان ضمن العائلة أو رفع دعوى ضدّ المعتدي تحت عناوين يتمّ الاستعانة بها لحماية الطفل وإن كانت غير موجودة (تحرّش جنسي أو فض بكارة أو هتك عرض)».
غير أنّ ما تقوم به جمعيّات الرعاية يبقى ضمن الإطار الذي تسمح به العائلة والمعنّف نفسه وأحياناً المعتدي، وهذا ما يحصر غالبيّة مهماتها في الحالات القصوى، فتقف عاجزة أمام أطفالٍ كثيرين لا يعترفون بحالاتهم أو أنّهم لا يعرفون عنها، لذلك تعوّل الاختصاصيّة في علم النفس سمر مقلّد على العائلة في الدرجة الأولى لحماية الطفل وتعريفه بحقوقه وواجباته. وفي هذا الإطار، تشير مقلّد إلى أنّ «حلقات التوعية يجب أن تكون موجّهة إلى الأهل أوّلاً لتعويدهم على بدائل العقاب مع أطفالهم، ليكونوا جزءاً أساسيّاً من الموضوع». وهي لا تستثني أحداً من الحملة التوعويّة، إذ تفضّل مقلّد «أن تشارك فئات المجتمع كلها في التوعية، بدءاً من المدرسة التي تلعب الدور الأساس والتي منها تنطلق بعض أعمال العنف، مروراً بالبرامج التلفزيونيّة ونشاطات البلديّات في المناطق، وصولاً إلى القانون «الغائب»، وهنا يكمن دور الوزارات في تعريفهم إليه». غير أنّ مقلّد لا تكتفي بحملات التوعية وتعليم الأطفال مهارات التربية والتعامل مع الآخرين، وإنمّا تعليمه أيضاً أنواع السلوكيات التي يواجهونها، إن كانت سلبيّة أو إيجابيّة، وكيفيّة حماية أنفسهم بناءً على بعض القواعد التي تشارك المدرسة في وضعها، عبر إعادة النظر في المناهج التربويّة والخروج من المحرّكات «التابويات» التي تتحكّم ببعض المواد التعليميّة أو تسمياتها.



المجلس الأعلى للطفولة



الخطّ الساخن ينتظر الوعي

رغم الجهود التي يحاول المجلس الأعلى للطفولة التابع لوزارة الشؤون الاجتماعية القيام بها بهدف الحماية، تقف الحالة السياسيّة المتردّية والسياسة العامّة التي تتّبعها معظم وزارات الدولة في تنظيم أولوياتها حاجزاً أمام استكمال أهداف الفريق الوطني الخاص بوقاية وحماية الأطفال المعنّفين. وفي هذا الإطار، يشير رئيس المجلس إيلي مخايل إلى أنّه «لا يوجد إطار مرجعي وسياسة وطنيّة ينظّمان تدخّلات الفرقاء العاملين ضمن الفريق الذي يضمّ وزارات العدل والتربية والتعليم العالي والشؤون الاجتماعيّة والصحّة العامّة وقوى الأمن الداخلي، إضافة إلى الجمعيّات الأهليّة والجامعات وبعض النقابات».
وبعيداً عن الفريق الوطني، شكّل المجلس لجنة عمل لإجراء دراسة ميدانيّة عن العنف في لبنان من أجل الخروج بمسوّدة السياسة الوطنيّة، المتوقّع صدورها العام الجاري، على أن تبدأ النقاشات بشأنها في شباط المقبل. ويقوم الفريق برصد الاحتياجات انطلاقاً من المعاهدات الدولية وتلك التي تقرّها الدول العربية في هذا الإطار، على أن تتشعّب تلك الاحتياجات بين أربع جهات: المنزل والمدرسة وقانون الحماية والخطّ الساخن، أو ما يسمّى خط نجدة الأطفال، الذي لم يبصر النور إلى الآن، بانتظار اعتبار قضيّة العنف قضيّة وطنيّة.
أمّا في ما يتعلّق بالعائلة، فيعمل المجلس الأعلى في اتجاهين، أوّلهما يهدف إلى رفع مستوى وعي الأهل وتغيير بعض القيم المجتمعيّة داخل الأسرة، حيث تبرز الحاجة إلى إرساء علاقاتٍ تبادليّة بين الطفل وعائلته وإقناعها تالياً بأهمية الحوار والاصغاء. وثانيهما يتعلّق بالأطفال أنفسهم لتمكينهم من قول «لا» في حالات العنف. وفي موازاة ذلك، تقوم اللجنة بتدريب المدرّسين أيضاً على إلغاء العقاب المدرسي والعمل على تبنّي تدابير العقاب الإيجابي، وقد تمّ إلى الآن تدريب 30 مدرّساً من المركز التربوي و30 آخرين من مديرية الإرشاد والتوجيه في وزارة التربية والتعليم العالي على أشكال العقاب البنّاء.
وتستكمل اللجنة حملتها مع العائلة بتنظيم ندوات ولقاءات مع الأهل في المدارس، تتزامن مع نشاطٍ آخر باشرت به اللجنة منذ فترة تحت عنوان «كيف تكون المدرسة صديقة لطفلك وخالية من العنف»، يُختتم بمدوّنة سلوك تكفل وزارة التربية تعميمها على المدارس من جهة، وحث المركز التربوي للبحوث والإنماء على تعديل المناهج التربوية من خلال تضمينها قيم الحوار والتسامح وحل النزاعات بالطرق السلمية من جهةٍ ثانية.
وبالنسبة لقانون الحماية، يلجأ المجلس إلى «تحضير مسودة لمناقشة قانون حماية الأطفال في المدرسة، بحيث يكون هناك قانون يغرّم الأستاذ ويحيله إلى القضاء في بعض الحالات الطارئة».