جان عزيز
كان مفيداً هذا التراجع الزمني والانكفاء الجغرافي لمسؤولي الإليزيه والكي دورسيه، عن الملف اللبناني وتشعباته الداخلية والخارجية، لإعادة قراءة العديد من الأمور، وتوضيح الكثير من المسائل، وحتى اكتشاف الحقائق.
زوار المقرّين الرسميين الفرنسيين من اللبنانيين ينقلون عن كبار الذين تعاطوا في استحقاقنا الرئاسي سلسلة من المعطيات، أبرزها التالي:
1 ـــ لقد اكتشفنا متأخرين، يقول الفرنسيون، أن قدرة دمشق على الفرض على المعارضة معدومة كلياً، أما قدرتها على التأثير فجزئية ومحدودة وانتقائية، وبالتالي لقد اكتشفنا متأخرين أن مقاربة التسوية من جانب المعارضة عبر البوابة الخارجية كانت خطأ، وكان الأفضل والأنجح أن يجري الحوار مع مكوّنات هذه المعارضة اللبنانية، عبر مطالبها الخاصة وبواسطة خطابها السياسي الذاتي، لا الرهان على إمكان معالجتها من «فوق».
2 ـــ لقد اكتشفنا أيضاً، وأيضاً متأخرين، أن مقاربة الموالاة من النافذة الخارجية، خطأ آخر، لكنه خطأ مختلف عن الأول. فإذا كان وهم التعامل مع المعارضة خارجياً، سببه عجز دمشق عن تلبية هذا المطلب، فإن وهم التعامل مع الموالاة خارجياً، منبثق لا من عجز الرياض، وهي قادرة كلياً في هذا المجال، بل من رفضها القيام بأي خطوة في هذا المجال.
ويقول المسؤولون الفرنسيون الذين تولّوا الملف اللبناني طيلة الأسابيع الماضية، بين الرئاسة ووزارة الخارجية في باريس، إن السعودية لم تهدف من رفضها إلى عرقلة المسعى الفرنسي طبعاً، ولا قطعاً أرادت من خلف ذلك منع الحل اللبناني، لكن الرياض تصرفت حيال الوضع في بيروت انطلاقاً من ثابتة واحدة حاسمة ولا تساهل فيها، ألا وهي عدم إعطاء أي رصيد لدمشق، وعدم السماح لها بتحقيق أي تقدم أو تسجيل أي نقطة في المسألة اللبنانية.
لماذا؟ يقول أحد مسؤولي باريس: في مكان ما، لمسنا كأن الموضوع تخطى الجوانب السياسية والحسابية، ليلامس الطابع الشخصي والشعوري. حتى إننا سمعنا من بعض العارفين بالشأن السعودي، أن ثمة في الرياض من كان يرى نفسه والداً لابنين: بشار الأسد ورفيق الحريري، فإذا بهما يتقاتلان، ومن نجا منهما «انقلب» على أبيه، وهذا ما جعل الكثير من أشكال التعاطي بين السعودية وسوريا في العامين الماضيين، متولّداً من ذهنية الطبائع العربية وسلوكيات بيئتها المعروفة.
ويضيف المسؤولون أنفسهم، أن القدرة السعودية على تعميم رأيها في عدد من دول الخليج معروفة ووازنة. وهذا ما اكتشفه الفرنسيون في جولتهم الأخيرة في المنطقة، ومثّل العامل الرئيسي للموقف الإعلامي الذي اتخذه نيكولا ساركوزي من القاهرة في 18 الشهر الماضي، لجهة وقف الاتصالات مع دمشق، من دون قطع العلاقات الدبلوماسية. إلا أن أحد أبرز مسؤولي الإليزيه العاملين على خط العاصمتين السورية والفرنسية، يسارع إلى التأكيد أن هذا الموقف كان للإعلام أكثر منه للتنفيذ السياسي العملي، مشيراً إلى أن اتصالاته الشخصية والمباشرة مع محاوريه في دمشق لم تتوقف ولم تنقطع، لكنها لا تزال محكومة بالاكتشافين المذكورين: عجز سوريا عن تبديل موقف المعارضة، ورفض السعودية تبديل موقف الموالاة.
3ـــ لقد اكتشفنا أيضاً، يتابع الفرنسيون، أن ثمة ملاحظات وتصويبات كثيرة، كان من الواجب إجراؤها في مسألة ترشيح قائد الجيش العماد ميشال سليمان، ويضيف هؤلاء ملاحظاتهم هذه ضمن ثلاث فئات، أوّلها مدى صحة قبول كل الأطراف اللبنانيين بهذا الترشيح، عن اقتناع إرادي وطوعي. إذ يلمح الفرنسيون إلى أن الكثير من المواقف التي سمعوها في هذا المجال، كانت أقرب إلى التضليل والتعمية، أو يعوزها الكثير من الدقة والصحة. وثانيها مدى النجاح الذي حققه قائد الجيش في تكريس موقعه مرشحاً توافقياً على مسافة واحدة من الجميع، بعد إعلان هذا الترشيح. أما ثالثة الملاحظات فتتعلق بكيفية الخروج من عنق الزجاجة هذا، إن لجهة إعادة تصويب ترشيح قائد الجيش كتسوية توافقية فعلية، أو لجهة إسقاط الموضوع نهائياً وطيّه والانطلاق إلى البحث في خيارات أخرى، مع ما لهذا الأمر من تعقيدات واقعية، نجمت عن مسار هذا الترشيح المعلن منذ 28 تشرين الثاني الماضي.
4 ـــ لقد اكتشفنا، يقول الفرنسيون أخيراً، أن قدرتنا على المثابرة والمجالدة في المستنقع اللبناني محدودة وقصيرة المدى، وأن المطلوب لمقاربة أزمات بيروت، نفس طويل جداً في الحوار والتفاوض والمساومات، وهو ما كان ينقص دبلوماسيتنا، فانعكس سريعاً حالاً من شبه القرف والارفضاض النفسي عن متابعة المسألة، وهو ما يأمل الفرنسيون ألا يتحول أيضاً إلى الجانب العربي الذي تسلّم البدل منهم في لبنان، للمتابعة والمعالجة.
الزائر اللبناني الخارج من الإليزيه والكي دورسيه يتذكر قولاً لشارل ديغول قبل عقود طويلة، يصح للوضعية الراهنة: لقد ذهبنا إلى الشرق المعقّد بأفكار بسيطة...