أشار آخر تقارير جمعية المستهلك في لبنان إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات الأساسية بنسبة ٣٧٬٤٪ منذ تموز 2006. تعود الأزمة المعيشية الحادة التي يعيشها اللبنانيون إلى أسباب محلية وعالمية. فمحلياً، يعرض التجار والمحتكرون وجهاز الحكم مسرحية هدفها إغناء الغني على حساب الدولة، كان أهم فقراتها مشهد دعم القمح الذي أدّى إلى الزيادة في دعم أصحاب المطاحن والأفران على حساب المال العام.
أما على الصعيد الدولي، فهناك أزمة غذاء عالمية حقيقية، ربما هي الأقسى منذ أواسط القرن العشرين.
فبعد أن كانت الأسعار العالمية للأغذية قد هبطت إلى أدنى مستوياتها وتراجعت الأسعار بنسبة ٧٥٪ بين عامي ١٩٧٥ و٢٠٠٥، جاعلة من التخمة والبدانة مشكلة توازي بأثرها مشاكل الجوع وسوء التغذية في العالم، شهدت سنة ٢٠٠٧، وحسب الأمم المتحدة، ارتفاعاً نسبته ٣٧٪ على مجمل السلع الغذائية في العالم، كان قد سبقه ارتفاع بنسبة ١٤٪ عام 2006.
تتعدد أسباب التضحم الغذائي الذي يشهده العالم اليوم، وأوّلها زيادة الطلب العالمي على الحبوب، وخصوصاً في البلدان التي تشهد ازدياداً سريعاً في عدد السكان، كما هو الحال في الصين اليوم. فالفرد الصيني الذي كان يستهلك ٢٠ كيلوغراماً من اللحوم سنوياً عام ١٩٨٥، أصبح اليوم يحتاج إلى ٥٠ كيلوغراماً سنوياً. وبما أن إنتاج كيلوغرام واحد من اللحوم يتطلب ٨ كيلوغرامات من الحبوب، فلا بد أن يزداد الطلب العالمي على الحبوب.
ِأما السبب الثاني فيكمن في السياسة العشوائية التي اعتمدتها الولايات المتحدة الأميركية وتبعتها بلدان عدة من أوروبا وأفريقيا وآسيا، في إنتاج المحروقات الحيوية. وهي محروقات بديلة من النفط تروَّج خطأً على أنها أقل ضرراً على البيئة، هدفها الحقيقي خفض الاتّكال على النفط الشرق أوسطي. وقد غيّرت الولايات المتحدة سياسات دعمها الزراعي لتتماشى مع هذا الهدف. فأصبحت مثلاً تحوّل كميات كبيرة من الذرة إلى مادة الإيتانول التي تستعمل وقوداً في السيارات. وتتّبع البرازيل آلية مشابهة، إذ تحوّل كميات من الصويا إلى وقود. أدّى هذا إلى تقليص كميات الذرة والصويا في السوق العالمية، وبالتالي إلى تسجيل نقص في كميات العلف والزيوت النباتية وارتفاع في أسعارها وأسعار مشتقاتها.
يضاف إلى هذين السببين التحولات المناخية التي شهدها العالم في السنوات القليلة الماضية. تعاني أوستراليا مثلاً من انقطاع الأمطار ومن جفاف حاد منذ ٥ سنوات سبّب خفض إنتاجها من القمح الذي تستورده البلدان العربية، وخصوصاً لبنان. يتزامن ذلك مع ارتفاع تشهده أسعار النفط يؤدي إلى زيادة كلفة الإنتاج والشحن. وقد بدأت البلدان الأوروبية بتقليص دعمها للزراعة، فكانت النتيجة زيادة الأسعار، وخصوصاً في البلدان التي تعاني من التبعية الغذائية.
قامت على أثر تلك التغيرات تظاهرات في العديد من البلدان النامية كباكستان والمغرب ومصر. تجاوبت على أثرها حكومات تلك البلدان عبر إقرار زيادة الدعم على السلع الغذائية وحماية الإنتاج الوطني. أما في لبنان، فقد تبنّت الحكومة سياسات الدعم التي شهدناها أخيراً، مع أنها تتنافى مع مبادئها الاقتصادية.
وتفيد التجارب العالمية بأن تلك الإجراءات لن توفّر إلا حلاً مؤقتاً، وأنها غالباً ما تزيد من نسبة التفاوت الاقتصادي، إذ إن الأغنياء يستفيدون منها عادة أكثر من الفقراء. وبما أن تلك التغيرات العالمية لن تختفي، فمن المتوقع أن يدفع الفقراء، من دول وبشر، الفاتورة.
لكن هناك بديلاً لهذه المقاربة المتشائمة، يكمن في النظر إلى ما يحصل اليوم كدافع لتغيير الواقع الإنتاجي والغذائي في البلدان النامية.
من المنتظر أن تؤثر تلك التغيرات على فقراء المدن أكثر مما قد تؤثّر على فقراء الريف، الذين لا يزالون ينتجون بعض حاجاتهم، والذين يعيشون من الزراعة ويستفيدون من ارتفاع الأسعار لتحسين معيشتهم. على ضوء هذا، قرر بعض البلدان النامية الاستفادة من ارتفاع أسعار الغذاء. فقد أقدمت كينيا مثلاً، مستفيدة من تجربة ملاوي الناجحة، على ترشيد سياساتها الزراعية، داعمة صغار المزارعين لإنتاج سلع بديلة من تلك التي تختفي من الأسواق.
وستكون الأشهر المقبلة صعبة جداً على العالم النامي بمجمله، وسيكون الفارق بين وقوع الكارثة والنجاة رزمة من السياسات التي تسعى إلى تمكين المزارعين من زيادة الإنتاج وتقليص التبعية.
ر.ز