جوان فرشخ بجالي
مقابر مبنية بحجارة بازلتية ضخمة، تلال تشرح طريقة تحوّل حياة إنسان ما قبل التاريخ من الترحال إلى التحضر، ومواقع أخرى لم تبح بعد بأسرارها لأعضاء الفريق العلمي الذي يقوم، ومنذ أربع سنين، بإتمام الخريطة الأثرية لمنطقة غرب سوريا

167 موقعاً أثرياً جديداً في غرب سوريا. تلك كانت حصيلة عملية البحث وإتمام الجردة التي قام بها أعضاء البعثة اللبنانية ــــ السورية ــــ الإسبانية خلال السنين الأربع الماضية. والمواقع الجديدة التي سجّلت على خريطة سوريا الأثرية تغطي كلّ الفترات، من العصر الحجري القديم الذي يبدأ منذ مليون سنة إلى فترة الحكم العثماني التي انتهت سنة 1918. عصور مضت وشعوب عاشت وتركت بصماتها على المنطقة الممتدة من مدينة حمص إلى قلعة الحصن إلى قرية شين فالحدود اللبنانية، والتي تغطي مساحة 560 كلم مربعاً.
وكان تاريخ هذه المنطقة شبه مجهول قبل قيام هذه البعثة بإتمام الخريطة الأثرية لها. وبالطبع، فقد تُوّج مجهودهم ببعض الاكتشافات المهمة جداً في فهم تطوّر الحياة في هذه المنطقة. وتقول الدكتورة مايا بستاني، مديرة البعثة من الجانب اللبناني والأستاذة في جامعة القديس يوسف، «إن أهم اكتشافين لفترة ما قبل التاريخ يكمنان في العثور على موقعين أثريين (جفتليك ووادي شباط) يعود استعمالهما غلى الفترة النتوفية (Natoufien) الممتدة ما بين 1200 و10200 سنة قبل الميلاد. وأهمية هذه المرحلة هي أنها سبقت التحضّر واكتشاف الزراعة والتدجين. ففي هذه الفترةن سكن الإنسان القديم في قرى صغيرة من دون أن يعرف الزراعةن فكان يأكل مما يجده حوله».
وتكمن أهمية اكتشاف موقعين أثريين من هذه الفترة في منطقة غرب سوريان لكونها تثير التساؤل عن نظرية «الهلال الخصيب». وتقول الدكتورة بستاني: «أصبحت نظرية بداية الحضارة في منطقة الهلال الخصيب موضع شك كبير عند العلماء، إذ لا نزال حتى اليوم نتساءل عن الدور الذي لعبته المناطق الواقعة خارج إطار الهلال في التحضّر ونشأة الحضارة الحالية. كما أنه من المستحيل أن يكون التحضّر حكراً على منطقة واحدة في كلّ الشرق الأوسط، واكتشاف هذين الموقعين الأثريين في غرب سوريا يثبت صحة التساؤل. ولكن معرفة تفاصيل تاريخ الاستيطان في هذه الفترة يتطلب حفريات أثرية لهذه المواقع».
أهمية عمل هذه البعثة لا تتوقف على هذا الاكتشاف، فقد حدد أعضاؤها عدداً كبيراً من المواقع الأثرية العائدة إلى فترة العصر الحجري القديم (Paléolithique) الذي يمتد لفترة مليون سنة، والتي طوّر خلالها الإنسان القديم حياته. فهو كان رحّالاً يقطن الكهوف ويرتكز على الصيد في مأكله، وكان يستعمل في الصيد أداة ينحتها بالصخر، وخاصة الصوّاني منه. ودراسة طريقة نحت الأدوات وحجمها هي ما يسمح للعلماء بتحديد الفترة الزمنية خلال هذه المدة الطويلة. أما لتحديد تاريخ الموقع الأثري المكتشف، فيستعمل علماء الآثار تقنية تقوم على جمع القطع الأثرية المبعثرة على الأرض وتحديد تاريخ استعمالها. وغالباً ما تجري طريقة «تأريخ» القطع عبر الدراسات على المقاربة بين القطع المكتشفة عشوائياً وتلك العائدة إلى الحفريات الأثرية العلمية. وتقول بستاني إن القطع الأثرية التي عثر عليها الفريق «هي أداة صوانية كان ينحتها إنسان ما قبل التاريخ ويستعملها في حياته اليومية، قطع من الفخار وأداة منحوتة في الصخر البازلتي المتوافر بكثرة في هذه المنطقة».
وإضافة إلى هذه الاكتشافات، فقد عثرت البعثة على مقابر تعود إلى العصر البرونزي (3500 ـــ 1200 قبل الميلاد) مبنية على شكل مغليث. والمغليث عبارة عن حجر ضخم غير منحوت يستخدم لتشييد الصروح والمقابر الحجرية الضخمة. وعن تلك الصروح التي عثر عليها العلماء في منطقة بحيرة حمص تقول الدكتورة بستاني: «إن منظرها مدهش. فهي عبارة عن قبور غالباً ما تتمتع بغرف دفن منحوتة في باطن الأرض وقد وضع على سطحها حجارة بازلتية ضخمة مرصوصة بشكل دائري. وفي بعض الأحيان شيّدت هذه القبور بعضها قرب بعض لتبدو كأنها مقابر كبيرة، كتلك التي تغطي أرض سهل حمص الواقع شمالي البحيرة. وتجدر الإشارة إلى أن بعضاً من «المسلات» المنحوتة في حجر واحد تحمل نقوشاً، ولكن لم تُدرس بعد، لأن ذلك يأتي مع التنقيبات الأثرية لتلك المواقع. كما يهدد الامتداد العمراني في سهل حمص بعضاً من تلك التلال الأثرية، فمنها ما أُزيل بالجرافة.
وتعيد بستاني السبب إلى «جهل السكان بالأهمية العلمية لتلك المقابر، وإمكان استغلالها سياحياً، وخاصة أنها فريدة من نوعها في منطقة غرب سوريا». وتجدر الإشارة هنا إلى أن بعض علماء الآثار في القرن الماضي كانوا قد أكدوا وجود مقابر مغليث في شمال لبنان، في سهل عكار، وهي بالطبع متصلة بتلك المنتشرة في غرب سوريا.
أما عن طريقة العثور وتحديد كل تلك المواقع الأثرية جغرافياً، تقول بستاني «إن الفريق اعتمد عدة تقنيات. فقد بدأ العمل أوّلاً على صور الأقمار الاصطناعية، ثم جرى مسح المنطقة طوبوغرافياً، بعدها جرت دراسة الأسماء لإظهار إن كانت تحمل أي معنى تاريخي يكشف هويتها أو فترة استعمالها، ومن ثم بدأ العمل الميداني. فعلماء الآثار زاروا كل هذه المواقع، وقاموا بأخذ القطع الأثرية المبعثرة على سطحها لتحديد فترة تاريخها، كما أنهم أجروا مقابلات مع أهالي المنطقة لاستكمال بحثهم». وهذا ما سمح لهم بإتمام الخريطة الأثرية، ولكن لم ينته العمل بعد، ففي الخريف المقبل ستُستعمل تقنية الكشف الجيوفيزية Détection géophysique)) لإظهار طريقة استخدام بعض من هذه المواقع الأثرية تاريخياً. وتشرح بستاني «أن طريقة الكشف هذه تجري بآليات معينة ترسل إشعاعات إلى داخل الأرض، فإن كان هناك بناءٌ ما (أي حجر) ترتد الإشعاعات إلى الكومبيوتر الموصول بالآلة وترسم الشكل الهندسي للبناء، ما يسمح للعلماء بتحديد ما في داخل الأرض من دون القيام بأي حفريات أثرية». وتؤكد بستاني أن الفريق العلمي «قد يختار بعد عملية الكشف هذه بعضاً من المواقع الأثرية المهمة للبدء بالتنقيبات الأثرية عليها. ولكن، ذلك قصة أخرى...



ما قبل التاريخ

إن اكتشاف الكتابة هو ما يميز بين فترتين: التاريخ وما قبل التاريخ. فحينما أرّخ الإنسان حياته اليومية بنصوص مكتوبة على الرقم الطينية، بدأ التاريخ. إذ لم يعد هناك من حاجة للتكهنات العلمية بمختلف أمور الحياة اليومية. والكتابة ولدت قبل 6 آلاف عام في مدينة الوركاء (مدينة البطل الأسطوري جلجامش) في جنوب العراق، وانتشرت من بعدها إلى المدن المجاورة، وكانت تلك الكتابة مسمارية.