أنسي الحاج
لمن تغنّي فيروز

يأخذنا صوت فيروز إلى حيث يريد. «الوجدان السوري تَشَكّل ـــــ كما تقول دلال البزري ـــــ كالوجدان اللبناني، على صوت فيروز... إنها تَعقد وَصلاً انقطع بين الشعبين».
أمام التباس المشاعر بين البلدين بعد الخلط الجارح في الخطاب السياسي (وغير السياسي) بين «السوري» و «الحكم السوري»، تأتي زيارة فيروز لدمشق حيث تقدّم مسرحيّتها «صحّ النوم» وكأنّها تصحيح عفوي أو قَدَري، لا فرق، لذلك الالتباس وإعادة الأمور إلى مكانها: الشعبان أقرب شعبين واحدهما إلى الآخر، وبعضهما واحد، والفنان يحاكي روح الشعب وروح الشعب تحلّ فيه ولا علاقة له بالحكّام والأنظمة إلاّ ما قد تقوله أعماله. وهنا، في هذا المجال الفيروزي ـــــ الرحباني الرحب، كلنا، على اختلاف درجاتنا، نجد قدوة في النزاهة والترفع لا غبار عليها.
لا شكّ أن رمزيّة ضخمة من لبنان تنتقل مع فيروز حيثما ذهبت، وهي اليوم رمزيّة ترميم جسر الوجدان الشعبي، وخطوة على طريق غسل مظاهر عنصرّية انزلق إليها بعضُنا في حُمّى ألمه أو غضبه. إن المشاكل والحروب بين الدول تجيء وتروح، وتبقى روابط الدم والتاريخ والمصالح والأدب والفنّ والأحلام. فهذه دائمة رغم تنويعاتها وأحياناً تناقضاتها، وهي بريئة من سلوك الحكّام.
لو كان حَجب الصوت سلاحاً فاعلاً لوجبت مناشدة فيروز حجب صوتها. ولكن عمّن؟ هل الناس هم الحكّام في سوريا وفي غير سوريا؟ صوت فيروز يغني للإنسان، للإنسان المفرد في الوحدة والمفرد في المجموع، وكلاهما هو الموجَع والمظلوم والعاشق والجريح. إن أوّل من بادر إلى الإحساس بهذا البعد الدافئ والعميق في صوتها هم السوريون. منذ بداياتها الإذاعية في مطلع الخمسينات، ولا سيما في إذاعتي دمشق والشرق الأدنى، وجدت فيروز عمقها الجمهوري في الأذن السورية أوّلاً. إن لهذا دلالات أبعد من الانسجام الطربي، توغل في نسيج الذاكرة المجهولة. الكتّاب، وخصوصاً الأدباء، يعرفون في علاقتهم بقرائهم ما يشبه ذلك. يعرفون، سواء اللبنانيون منهم أو غيرهم، مدى رهافة القارئ السوري وجدّيته. الجمهور الفنّي والأدبي السوري جمهور مثالي لا في التذوّق والمتابعة والانفتاح فحسب بل في سخاء الاحتضان.
ليس في تقديم «صحّ النوم» في دمشق لمناسبة إعلانها عاصمة للثقافة العربية 2008 أية مجاملة للحكم السوري بل لقاء الشوق بين فنّانة وأهل. ما بين الجمهور السوري وصوت فيروز من شراكة هو ما بين الحنين وهدفه. يعطيهم صوتها لحظة من التجلّي في طمأنينة صوفيّة غامرة. إن مصافحتها لهم اليوم بعد غياب هي مصافحة كلّ إنسان لبناني لكلّ إنسان سوري وتأكيده له أن جرائم السياسة شأن المجرمين ولا يُحاسَب الناس على ما لا حَول لهم فيه ولا قوّة.
ثمة مبادئ يصيب استعمالها مواضع حَميميّة وفي محلّ يصعب القيام بعده. كالعنصرية في الفن والأدب. عهد الحرب العالمية الثانية بين «الحلفاء» و «المحور» لم يتجرأ أحد من الطرفين على توظيف الأدب والفن لا سلباً ولا إيجاباً. قبل ذلك، نيتشه، أحد ملهمي العقيدة التفوّقيّة، لم يهاجم مثله أحد الثقافة الألمانية ولم يُعجب مثله ألماني بالأدب الفرنسي. شيوعيّو المقاومة في فرنسا وحتى مثقفو يهودها لم ينكر أحد منهم في ذروة الكراهية للنازية إعجابه أو تشبّعه بهذا الشاعر الألماني أو ذاك. من المؤسف التذكير بهذه البديهيّات. الذي يرى نفسه مضطراً للجوء إلى سلاح الحصار الفني والأدبي ضدّ عدوه يكشف فراغه من القيم ويَسقط أدنى من عدوه.
شيء آخر: لو كان لفيروز، المحبوبة هنا وهناك، أن تؤثّر في قرار الحكّام السوريين لما حلّت الوصاية السورية بلبنان. وقبل ذلك، لو كان لفيروز ما نطالبها به من سلطة سياسية لـ«كارَمها» الفلسطينيون وما ارتكبوا تجاوزاتهم في لبنان، وهي التي دشنت أغنياتها المقاومة الفلسطينية قبل منظمة «فتح». ولو كان لفيروز هذه السلطة لما اقتتل اللبنانيون، أولاً وأخيراً. كما يعجز الحكّام عن استغلال الفنانين ـــــ الفنانين الحقيقيين، وفيروز أوّلهم ــــــ يعجز الفن عن شفاء السلطة من أمراضها والحكّام من سلطويّتهم. الحدود هي هنا. تتلاقى جماهير الفن على حبّه خارج القيود، أبعد من الحدود، كما يتلاقى المؤمنون على الإيمان رغم تناحر دولهم. إن أبشع ما في السياسة هو هذه الغربة بينها وبين البُعد الإنساني، في أعظم الشؤون كما في أبسطها.
يأخذنا صوت فيروز إلى حيث يريد. وأبلغ شهادات حبّنا له لا أن نحتجزه معاقبةً لأحد بل أن نفرح به ينقل أجمل ما فينا إلى الآخرين ويترك أينما حَلّ صدى رحمة الفنّ وتبكيت ضمير الحنان.



شراكة

غير واضح من يخاف أكثر، القاتل أم القتيل. من رغوة رعب الضحايا يتكوّن وباء ينتقل إلى القاتل. وباء الخائفين ينجب وباء الخائف من الخائفين. يشعر القاتل بالنصر ما دام مجهولاً أو مغمَضاً عنه، وتنحسر طمأنينته منذ يبدأ وجهه بالظهور. حين يُعرَف، لا يعود إجرامه قوّة أو متعة بل خبطَ عشواء بين رؤى الهذيان.
من أين لواحد مثلي معرفة بواحد مثله؟
من شراكتي مع الملايين في احتواء القاتل الشبحي الذي يئنّ بين سلاسل عجزنا.



السخيف والقويّ

من أشد الأمور هزليّةً منظر رجل كوميك ومتصنّع يفتعل التجهّم وينفخ عضلاته ليوحي الرهبة (الممثل بروس ويليس). من أشدّ الأمور إثارة للدهشة شبه الإجماع على الإعجاب بشخص قصير مكسور الصوت أبلق العين مغناطيسي الحضور وحضوره أصفر على أسود (الممثل آل باتشينو).
قد تكون الدعاية صنعت رواج الأول. أما الثاني، فلعلّه مدين بشعبيته، تحديداً، لما نحاول أن نشكو منه: شرّيريّته المطبوعة، التي نجّحته كثيراً في دور الشيطان الحديث (أحد أفلامه الأخيرة). عبرة من هذا: كلما تخلّص المؤدي من إظهار المشاعر، وخاصة «الانسجام» العاطفي والحنان الرومنسي، ازدادت حظوظه من القوة. القويّ هو أيضاً الذي لا يبالي برأيك فيه، فيغزوك من باب احتقارك.



هُنّ الأقلّ غشّاً

يتحسّر أهل رأي وساسة كون مواهبهم مهدورة كاللآلئ بين الخنازير، وأنهم لا يحسنون استثمار ذاتهم. غالباً ما تتحسر مومسات لاضطرارهن إلى استثمار أجسادهنّ. حدود العمر حدودهن على كلّ حال. أما السياسيون وأهل الرأي فكّلما تقدّم بهم العمر ازدادت مواهبم المومسية وتزايد التهافت عليهم. هناك، الممارسة تُضني، وهنا، تُحكِّم بالرقاب وتُمكّن من «توجيه الرأي العام».



صورة هائمة

قول للصديقة المُلهمة في إحدى رسائلها: «حتى إن لم نولد، لا شيء سيحمينا من الموت».



المجرّد برهان الملموس

من يستطيع أن يؤكّد وجود الجسد؟ ليست لمسة اليد، بل الصورة. والصورة ذاتها ما الذي يُثبت وجودها؟ حلمنا بالجسد.



الإعادة

المرحلة الأولى مسافة، الثانية اهتمام مصدوم، الثالثة تفكير دافئ، أحرّ من دافئ.
الرابعة إعادة لما لا نهاية لإعادة اكتشافه ــــ حيث الاعتياد متواصل الإدهاش، والتكرار هو الانولاد كلّ لحظة جديداً أكثر.
الإعادة أجمل من البداية.