إبراهيم الأمين
يهتم الفرنسيون بتوضيح صورة لا تحتاج إلى توضيح لناحية أن موقف باريس هو أقرب بقوة إلى الموقف الأميركي منه إلى موقف أي طرف آخر إزاء فكرة الحل في لبنان. لكن مشكلة الجانب الفرنسي تكمن في أن الفريق الإعلامي في وزارة الخارجية يريد أن يعطي صورة متماسكة عن الموقف والإدارة الفرنسية لملف لبنان بخلاف ما هو قائم. ويبدو أن هذا الفريق يتجاوز بغباء ما يعرفه الجميع منذ اليوم الأول لبدء النشاط الدبلوماسي الفرنسي في لبنان بعد انتخاب الرئيس نيكولا ساركوزي، حيث تحول المساعدان كلود غيان وجان ليفيت إلى دينامو التواصل الدبلوماسي الموازي للكرنفال المتنقل الذي يقوده الوزير برنار كوشنير.
ومنذ أن أصبح كوشنير نجماً لبنانياً يتنقل بين المقارّ والشاشات، كان النقاش قائماً في الأوساط الفرنسية المعنية حول سبل تفادي ما كان قائماً من أخطاء خلال الحقبة الشيراكية، ليتبيّن بعد وقت قصير أن آلية العمل التي أقرّت مع الرئيس السابق محببة إلى قلب الرئيس الجديد، وأن التبدل ينحصر في شكل المقاربة من جهة وفي آليات التواصل مع الآخرين من جهة ثانية. لكن أصل فكرة أن القرار يطبخ ويخرج من قصر الرئاسة الفرنسية لا من وزارة الخارجية ظل معمولاً به.
ومع أن الجانب الفرنسي استهلك سريعاً عدة أطر للعمل من التي بدأت مع الموفد الخاص جان كلود كوسران، إلى ما قام به كوشنير نفسه، إلى الجهود الإضافية التي بذلت بوساطة سفراء وموظفين أمنيين، فإن الفكرة الأساسية ارتبطت بالجديد الممكن مع الدوائر التي كانت فرنسا ـ شيراك قد قاطعتها خلال الفترة التي واكبت وتلت تورط باريس في مغامرة القرار 1559. إلى أن وصل النقاش إلى السؤال المركزي: كيف نتعامل مع سوريا في سوريا، ومع سوريا في لبنان؟ وهل من إمكان لبناء علاقة مع سوريا، بعيداً عن الملفات الساخنة التي لها فيها تأثيرها الواضح؟ وهل هناك من إمكان وقدرة ورغبة في عقد صفقات مع دمشق لأجل التوصل إلى علاجات لبعض هذه الملفات؟
وبرغم النقاش المنفعل الذي رافق هذه التجربة، إلا أن الأكيد هو انفجار الخلاف سريعاً، ما دفع بالرئيس ساركوزي إلى تكليف كبير موظفيه كلود غيان تولّي مهمة البحث المباشر والمكثف مع القيادة السورية، واتفق ساركوزي مع نظيره السوري بشار الأسد على قيام حوار وتواصل مفتوح بين غيان ووزير الخارجية السوري وليد المعلم، وفق قواعد عمل تقول إن كلاً من الطرفين لديه آلية تواصله مع القوى اللبنانية المتنازعة. ودارت الأمور على هذا النحو حتى حصلت القطيعة بسبب أن باريس كانت تأمل من سوريا أن تساعدها في لبنان ولو على حساب حلفائها، مقابل أن تؤدي باريس دوراً في إعادة الاعتبار إلى العلاقات السورية ـ الأوروبية من جهة، وبذل جهد لتحسين العلاقات السورية ـ الأميركية.
وفي هذا السياق، تشير مصادر واسعة الاطّلاع إلى أن التسريبات الفرنسية إلى صحيفتي «الحياة» و«النهار» بشأن آخر الاتصالات مع سوريا والمسعى القطري دلّت على وجود مصلحة لجهة فرنسية بارزة في قطع الطريق على أي محاولة لاحتواء الموقف المتفجر في لبنان من خلال آلية عمل تختلف عما كان سائداً. وتقول هذه المصادر إن الوزير كوشنير يتصرف بدرجة عالية من التوتر، وهو يتناول الملف بطريقة توحي كأنه «الزوج المخدوع»، وخصوصاً عندما يعلّق بشيء من الغضب والسخرية على النتائج التي تخرج بها اتصالات غيان مع القيادات السورية واللبنانية، ويقود كوشنير في هذا الصدد التيار الذي يدعو إلى تحميل سوريا مسؤولية ما يجري وعدم منحها أي فرصة إضافية، ورفض أي تبرير يصدر عن جانبها بالقول إنها غير قادرة على الضغط على قوى المعارضة في لبنان. وقد وصل الأمر بكوشنير إلى حدود أنه أخذ الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى جانباً على هامش لقاءات دافوس، وتولى تحريضه المباشر على سوريا وعلى جهات فرنسية من «مجموعة الإليزيه» باعتبار أن ما تقوم به يهدف إلى نسف المبادرة العربية.
وباعتقاد المصادر نفسها، فإن طريقة الحديث عن المسعى القطري تعكس هذه الرغبة أيضاً، إذ إنه جرى تقديم الوساطة القطرية بين فرنسا وسوريا على أنها مقدمة للحلول محل المبادرة العربية، وقيل إن رئيس الوزراء القطري حمد بن جاسم حمل إلى الرئيس ساركوزي اقتراحاً سورياً باقتراح مرشح بديل من المرشح الرئاسي العماد ميشال سليمان. وأُوردت أسماء، منها الوزيران السابقان فارس بويز وجان عبيد وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة والوزير السابق دميانوس قطار.
وتشرح المصادر ما يجري بالقول إن كل ما سرّبه مسؤولون فرنسيون في الآونة الأخيرة، إنما يعبّر عن مشكلة داخلية فرنسية، وإن كوشنير منذ تعطل مساعيه وجلوسه في مكتب سفيره في بيروت منتظراً ما يصله من غيان في دمشق، كان يشعر بأن الأمور تتجاوزه وتفلت من بين يديه، وبأن الأمر لا يتعلق فقط بملف لبنان بل بملفات أخرى، من بينها ما يحصل في السودان ومصر والسعودية وليبيا. وإن كوشنير يشعر بالضيق باعتبار أنه لم يطّلع تماماً على تفاصيل ما قام به المسؤول القطري.
وتلفت المصادر إلى أن سوريا لم تطرح أي أسماء بديلة من المرشح سليمان حتى الآن، وأنه رغم الملاحظات المنقولة عن لسان مسؤولين سوريين فإن دمشق لم تصل بعد إلى مرحلة التخلّي عن دعم المرشح سليمان. لكن فكرة البديل قائمة لدى الفرنسيين ولدى آخرين، من بينهم جهات عربية انطلاقاً من الشعور القوي بأن المبادرة العربية القائمة على أساس ترشيح سليمان قد وصلت إلى الطريق المسدود، وأنها مسألة وقت فقط قبل الإعلان عن فشلها.
وتلفت المصادر إلى أنه في ظل هذا المناخ فإن باريس، التي قطعت الاتصالات المفتوحة بينها وبين دمشق وصار الأمر مقتصراً على اتصالات جزئية، تشعر بالحاجة إلى من يبقي الباب مفتوحاً وذلك ربطاً باحتمال تفجر الوضع في لبنان بعد 27 كانون الثاني الجاري، وأن الحل يجب أن يقوم أيضاً من خلال مبادرة تقوم على اختيار رئيس توافقي، وهذا ما كان مدخلاً للبحث عن سيناريوهات بديلة، وجاءت قطر في هذه اللحظة لتقوم بدور الوسيط مع سوريا. وتقرّ المصادر بأنه جرى استعراض لبعض الأسماء التي يمكن أن تشكل توافقاً. لكن المصادر تجزم بأن باريس كما قطر لم يتسلّما بعد أي جواب من دمشق بخصوص الأسماء أو آلية معالجة نقاط المبادرة الأخرى.