جان عزيز
منذ أوّل تزامن غريب في سلسلة الجرائم والتفجيرات، وارتباطها بسلسلة الاستحقاقات والمحطات، وحتى اللحظة، لا يزال الأمر يتمتع بثابتتين: أولاهما حضوره في كل انفجار، وثانيتهما عجز أي تحقيق أو كشف وقائعي عن تفسيره وتأويل غرابته.
التزامن الغريب الأول سجل في الأول من تشرين الأول سنة 2004، يومها وقعت محاولة اغتيال مروان حمادة في شكل متزامن مع انتهاء مهلة الشهر التي حددها قرار مجلس الأمن 1559، والتي في ختامها يصدر تقرير جديد، تليه متابعة دولية جديدة.
بعده كرّت سبحة التزامنات، لم يشذّ عنها أي انفجار، حتى إنها بدت متّصفة بنوع من الوقاحة، أو إهانة ذكاء المراقب.
حتى في زمن الفراغ الرئاسي وأحداثه الدموية الثلاثة، ظل التزامن الأمني ـ السياسي نفسه هو القاعدة. وقد يفيد استعراض بعض الوقائع:
في 17 كانون الأول من العام الماضي، كانت مضت أسابيع ثلاثة فقط على نهاية الولاية الرئاسية، وكان مقرراً في ذلك النهار أن ينعقد اجتماع عربي ـ دولي في باريس، ما لم يعرف في حينه، كشفه أحمد أبو الغيط قبل أيام، مؤكداً أن ذاك الاجتماع أدى إلى نتيجتين اثنتين: أولاً سحب الملف اللبناني من اليد الفرنسية، وسط انتقادات عنيفة من جانب بعض أصوات الموالاة لأداء باريس، وثانياً الاتفاق على مرحلة تمهيدية من التعريب، كمعبر إلى تدويل الاستحقاق.
ولأسباب كثيرة، كان بادياً أن لقاء باريس يحتاج إلى حدث ما، يقنع الفرنسيين أو يسكتهم، ويلزم العرب، ويطلق آلية العبور من باريس إلى نيويورك عبر محطة القاهرة، فجأة، وقبل خمسة أيام فقط من موعد الاجتماع، سقط اللواء فرنسوا الحاج شهيداً في قلب المنطقة الأمنية الرسمية الأولى في لبنان.
قيل في جريمة بعبدا في 12 كانون الأول الماضي الكثير. قيل فيها البعد الأمني، والبعد الأصولي، وبعد مستقبل الشهيد الحاج، وبعد ماضيه البطولي في قيادة معركة نهر البارد. لكن التزامن بين جريمة اغتياله ومؤتمر باريس، مرّ بتؤدة على هامش الحدث.
التزامن الأمني السياسي الثاني في عهد الفراغ، كان قبل عشرة أيام. ففي 16 كانون الثاني الجاري، كان عمرو موسى عائداً من روما إلى بيروت مباشرة، وفي جعبته موعد شبه نهائي للقاء ممثلي الموالاة والمعارضة في المجلس النيابي، وتصور شبه مكتمل لإطلاق آلية الاتفاق على ترجمة مبادرة القاهرة. كان موسى قد سمع كلاماً صريحاً من الرئيس نبيه بري: إذا لم تعد حاملاً تفسيراً رقمياً واضحاً لمبادرتكم العربية، وقراراً حاسماً يجمع ميشال عون وسعد الحريري، فالأفضل ألّا تعود. ومع ذلك كان الأمين العام لجامعة الدول العربية عائداً إلى العاصمة اللبنانية. حين دوّى عصر 15 الجاري، انفجار في منطقة الدورة قرب مرفأ بيروت، قيل إنه استهدف سيارة تابعة للسفارة الأميركية، كانت عائدة من مطار بيروت إلى مقرها في عوكر، بعدما أقلّت دبلوماسياً مغادراً لبنان.
بعيد ظهر ذاك النهار، لم يسقط أي دبلوماسي في الانفجار، لكن في اليوم التالي سقطت مبادرة عمرو موسى، وسط تصلب مستجد من قبل الموالاة، حظي بتغطية واضحة من رعاتها الإقليميين والدوليين على السواء.
يوم الأحد المقبل يلتئم اجتماع القاهرة مجدداً، في حضور وفدين لبنانيين يمثلان كلاً من الموالاة والمعارضة، وفي ظل مذكرتين باسميهما. والأهم أن إجماع الغد ينعقد في ظل ما بات مؤكداً حول مسعى فرنسي قطري للبحث في خيارات جديدة رئاسياً وحلول أخرى للتسوية. واللافت أن هذا المسعى اكتسب أمس تأكيداً رسمياً من باريس، فيما كان موظفو الكي دورسيه، وخصوصاً في بيروت، يدأبون على توزيع معلومات «صحافية» لنفيه وتكذيبه.
واللافت أكثر أن اجتماع الغد ينعقد في ظل اهتمام دولي كبير بزيارة نائب وزير الخارجية الروسية إلى دمشق وبيروت، ذلك أن مصادر دبلوماسية معنية تؤكد أن ملامح المرحلة المقبلة، وخصوصاً لجهة إمكان تدويل الاستحقاق الرئاسي اللبناني أو عدمه، تقرأ على ضوء مواقف سلطانوف في لبنان وسوريا. فروسيا هي المعبر الأكيد نحو انتقال الملف إلى نيويورك أو «نقض» هذا الانتقال.
عشية هذه الارتقابات، دوّى أمس انفجار جديد، ليسقط مسؤولاً أمنياً تابعاً للجهاز المنضوي عضوياً ضمن فريق الموالاة. غداً، ستغزر التأويلات وتكثر الاجتهادات عن دور الشهيد المستهدف في مكافحة الإرهاب وفي ملفات لجنة التحقيق الدولية وفي آلية قيام المحكمة الدولية، وفي كل ما لا علاقة له باجتماع القاهرة غداً. لكن الأكيد أن ثمة خيطاً غير مرئي سيكون ماثلاً في العاصمة المصرية، يقطع ما كان متوقعاً ربما، ويصل ما كان مرجّحاً للطّيّ والإسقاط.
كتب دستويفسكي مرة «إن الجريمة والعبقرية لا تلتقيان»، لكن اللبنانيين يتباهون دوماً أن بلادهم ملتقى لكل ما قد يتناقض على هذه الأرض.