جان عزيز
قبل البيان الشهير للنائب «المستقبلي» عمار الحوري، بترشيح العماد ميشال سليمان إلى رئاسة الجمهورية في 28 تشرين الثاني الماضي، والذي جاء عقب قرار اتخذ في اجتماع ثلاثي بين سعد الدين الحريري وفؤاد السنيورة ووليد جنبلاط، كما أكد الأخير لاحقاً، قبل ذلك البيان كان بعض من أركان الموالاة ينظّر لخطوة الترشيح المذكور علناً، ويفصّل أبعادها والأغراض.
منطق هؤلاء كان واضحاً لجهة استهداف ميشال عون. وكان لسان حالهم يقول: يأتي «الجنرال الأصلي»، كما كتبوا تحت صوره المرفوعة لاحقاً في بعض المناطق المسيحية، نصالحه مع سمير جعجع، يستند إلى بنية تحتية تعبوية قوامها القطاع العام، ويستعد لتأليف كتلة نيابية في العمق المسيحي في جبل لبنان سنة 2009، فننهي التيار الوطني الحر وزعيمه.
لكن منطقهم الأدق والأكثر حساسية، كان حيال حزب الله. وكان يستند إلى سلسلة من العوامل، أبرزها تسويق سليمان لدى الأميركيين، بعد الفتور الذي تولّد من رفض واشنطن، في فترة سابقة، اقتراح تعديل الدستور تمهيداً لانتخابه. المطلوب إذاً مصلحة مشتركة بين قائد الجيش والموالاة والسياسة الأميركية في لبنان. وكانت النتيجة معلنة: تقديم رأس حزب الله. يومها كتبت هذه الزاوية هذا الطرح، وعنونته استشهاداً حرفياً بتنظيرة الموالاة تلك: أبو هادي ليس أعزّ من أبو عمّار».
وكان أصحاب الفكرة يتحدثون بوضوح عن أن المشروع ليس غير مسبوق. لا بل هو تكرار لمحاولتين سابقتين.
المحاولة الأولى كانت يوم 13 أيلول 1993، تاريخ توقيع اتفاق أوسلو. نزل «مواطنون» رافضون للتسوية، متظاهرين ضدها عند جسر المطار. واجههم الجيش. أطلقت النيران وسقط القتلى. يومها، يقول منظّرو الموالاة، أراد حافظ الأسد توجيه الرسالة إلى الأميركيين، بعد شهرين فقط على عملية «تصفية الحساب» في تموز من العام نفسه. ومفادها: أنا مستعدّ للسير معكم، ولديّ القدرة على ذلك، لكن لنبحث في الثمن والصفقة. يومها لم يقبل الأميركيون العرض. كان رهانهم لا يزال قائماً على تسوية بكلفة أقل، عبر مسار مدريد وورقة «وديعة رابين». فتحوّل الدم المسفوك علبة بريد ميتة.
المرة الثانية، كانت في 27 أيار 2004، في حي السلّم. نزل «مواطنون» إلى الشوارع احتجاجاً ورفعاً لقضايا مطلبية ومعيشية هذه المرة. نزل الجيش في مواجهتهم. أطلقت النار وسقط الضحايا مرّة أخرى. ويقرأ منظّرو الموالاة، أن الرسالة الثانية وجّهها هذه المرّة بشار الأسد، إلى العنوان الأميركي نفسه، وبالمضمون عينه: مستعدون للتسوية، لنبحث الثمن. ومرّة ثانية لم تقبل واشنطن العرض، لأن توقيته جاء متأخراً، وفق قراءة الموالاة، بعدما كان قد سبقه عرض لبناني ـــــ فرنسي ـــــ عربي مشترك، عنوانه القرار 1559. ومرّة أخرى ظل الدم اللبناني علبة بريد ميتة.
هذه المرّة، لن تكون الرسالة سورية المصدر والمنشأ، قال منظّرو الموالاة. أصلاً كل الظروف تغيّرت. لا «عملية مدريد» في المنطقة، بعدما بدت ولادة أنابوليس ميتة، ولا أفق للقرار 1559 دولياً، بعدما تحوّلت المساعي العربية والفرنسية إلى مماحكات تنهل من الرصيد الأميركي وتصرفه على حسابات تحسين الأدوار والمواقع والنفوذ.
هذه المرّة الرسالة يجب أن تكون لبنانية ويوجهها تحالف الموالاة وبكركي والرئيس المقبل. أما المضمون، فمطابق للرسالتين السابقتين: هذا هو النموذج العيني نقدمه إليكم. نحن قادرون على الحسم والتصفية. تعالوا نبحث في الصفقة.
هل ثمّة من تورّط في الجيش في مثل هذه «التنظيرة»؟ كل المعنيين ينفون هذا الاحتمال. والأطراف كافة، المستفيدة كما المتضررة، تشير إلى أن ثمّة من اقتنص الفرصة لتوجيه الرسالة من دون علم الجيش ومؤسسته وقيادته. لا بل هناك من يعتقد بأن المحاولة كانت مزدوجة. فإذا نجحت، فرض فريق الموالاة نفسه دائناً كبيراً لميشال سليمان لجهة وصوله إلى الرئاسة، وإذا فشلت، فالفريق نفسه لن يكون منزعجاً ولا خاسراً. إذ عندها يفقد قائد الجيش ورقتيه الرابحتين، إن لجهة دوره الأمني، أو لجهة موقعه التوافقي. فيسقط ترشيحه، ويعود الاستحقاق الرئاسي إلى نقطة الصفر، في ظل ظروف تراها الموالاة أكثر ملاءمة لها، عربياً ودولياً، وتسمح بالتالي باختيار مرشح حل بديل، يكون أقرب إليها ممّا هو قائد الجيش المتصل ببشار الأسد قبل أيام.
رسالة ثالثة بالدم أيضاً. في المرتين السابقتين، قيل إن بقاء المرسل على قيد الحياة سياسياً ولبنانياً، اقتضى لفلفة التحقيق وطيّ الملفين. هذه المرّة، بقاء المعنيين على قيد الحياة نفسها يبدو أنه يقتضي العكس، ويفرض كل الحقيقة وفوراً.