جان عزيز
قلّة قليلة من الأصوات السياسية والمراقبة كانت تعتقد أن تجنّب اندلاع الحرب أمر ممكن، قبل ذاك الأحد الأسود في 13 نيسان 1975. بعده بدا أن هذه القلّة ازدادت، وخصوصاً بعد انتهائها الشكلي سنة 1990. إذ سرعان ما ظهرت طبقة من شهود الحرب وشهدائها الأحياء، ممّن أجروا قراءة ثانية لتلك الحقبة، واستخلصوا عبرها وأدركوا العبر والدروس. آراء تلك الطبقة المحصورة نسبياً، ظلّت متباينة، على بعض تمايز، وخصوصاً على تنوّع في المقاربات. غير أن المحصّلة الختامية لآرائهم يمكن جوجلتها في المعادلة الآتية:
حرب عام 1975 كان من الممكن تجنّبها، لو توافرت في الداخل اللبناني ثلاثة عوامل: أولاً لو اقتنع أهل القرار في «المؤسسة المسيحية السياسية» بضرورة إعطاء ظروف «المشاركة الوطنية» في النظام، قبل أن تتحوّل هذه المطالبة من اعتماد الصراع الديموقراطي إلى توسّل العنف. ثانياً لو توصّلت «الحركية الشيعية السياسية» التي أطلقها السيد موسى الصدر منذ أواخر الستينيات، إلى تحقيق ذاتها الجماعية في إطار النظام اللبناني في شكل طبيعي هادئ، ما سمح بعدم تشظّي تلك الحركية على كل محاور التناقضات اللبنانية والمسارات النزاعية التي كانت قائمة، من اليسار إلى «الذاتية» وما بينهما، نتيجة انسداد أفق النظام في وجهها. وهو عامل أسهم باعتماله الكامن، في تبلور العديد من التفجّرات التي تمظهرت لاحقاً عبر أوجه وأنماط مغايرة لحقيقة أسبابها.
وثالثاً، لو توافق اللبنانيون، بعد توافر العاملين السابقين، على آلية ما لمقاربة السلاح الفلسطيني المتحوّل دولة داخل الدولة، آخذين في الاعتبار كل الظروف الداخلية والخارجية المكوّنة لإشكالية هذا السلاح، وخصوصاً مشروعية القضية الفلسطينية الأم، لا المتفرّعة عنها ثورات أنارشية في الشتات، وجغراسياسية لبنان من ضمن صراع المنطقة.
بكلام أبسط، الذين تعلّموا دروس الحرب الماضية أجمعوا على أن تلافيها لم يكن مستحيلاً، لو تنازل المسيحيون عن بعض سلطويتهم، ووجد الشيعة توازناً أكبر بين حجمهم ودورهم، واتفق الجميع مع أبو عمار على صيغة ما لدعم قضيته في الخارج، في مقابل دعمه استقرار الدولة اللبنانية في الداخل.
ما هي مناسبة هذا الكلام؟ ليس طبعاً وقع أحداث مار مخايل يوم الأحد الماضي. بل الأكثر هذا الانطباع الدولي عن انزلاقنا اللاواعي نحو الحرب، وهو ما عبّر عنه على سبيل المثال آلان غريش منذ آذار الماضي، بعنوان: «الحرب الأهلية الصامتة في لبنان». أما في المقلب الآخر من الأطلسي، فالكتابات عن تأكد كوننا «دولة فاشلة» صارت أكثر غزارة من الخطاب الرسمي الداعم لسيادتنا ووحدة أراضينا. وقد يكون دايفيد ساترفيلد يضحك في سرّه شامتاً ببغداد، حين يرعى بعض زملائه ممّن خلفوه، غارقين في مستنقع بيروت الذي كان يسميه «لا دولة»، (نون ستايت) ولم يكونوا ليصدّقوه. حتى في الداخل اللبناني ثمّة بين الرائين لعمق الأحداث من بات يطلق على حقبة 2005 ـــــ 2007، اسم «حرب السنتين الثانية»، تيمّناً بتسمية عامي 75 ـــــ 76، قبل أن تتندّر حربنا حروباً.
ما الذي قد يجنّبنا الانزلاق نفسه؟ العوامل متشابهة في غالبيتها، مع تبادل في المواقع والأدوار. وهو تبادل معبّر ولافت. والأهم أنه في ظل موازين القوى المتكافئة على المستويات الثلاثة: بين المحور الغربي القديم و«المحور الشرقي» الجديد، وبين دمشق والرياض، وبين الموالاة والمعارضة، بات لبنان مرشحاً لدخول نفق طويل من النزاع المزمن. وهو نفق أثبتت أحداث مار مخايل قابليته للانفجار، أو للانهيار، عند أي لحظة. فأي أمثولة تعطيها حرب عام 1975؟ ماذا لو تبلورت فكرة ميثاق جديد، ولو مرحلياً، على قاعدة العوامل الثلاثة المقابلة:
أولاً، أن تقنع السنية السياسية، بمسلميها ومسيحييها، بكبح جموحها السلطوي، والقبول بمبدأ الشراكة الوطنية الحقيقية الجديّة والمتوازنة، بعدما باتت «المؤسسة السياسية السنية» في موقع مسيحيي الـ75.
ثانياً، أن يستعيد المسيحيون توازنهم السياسي والوطني، فيعودوا عامل وصل في النظام، لا مشكلة فصل وعزل وإحباط واستقالة، ويسهموا في هامش مرونة التفاعل السني ـــــ الشيعي، بدل أن يبدوا متذرّرين على فوالق هذا الصراع، وذلك بعدما أصبح المسيحيون اليوم مشكلة للكيان في ضمورهم، كما بدا شيعة العام 75 في صعودهم.
ثالثاً، أن ينتج من العاملين السابقين توافق لبناني جامع، قادر على إقناع «الشيعية السياسية» بمقاربة جديّة جذرية وبنّاءة لمسألة سلاحها، علماً بأن النموذج الوحيد العملي لذلك حتى الآن، قدمته وثيقة تفاهم عون ـــــ نصر الله.
ماذا وإلاّ؟ التاريخ يعيد نفسه؟ فقط لدى الشعوب الفاقدة للذاكرة، يضيف ريمون آرون.