نقولا ناصيف
في انتظار نتائج تقرير قيادة الجيش عن اضطرابات الأحد الماضي وتحديد المسؤولين عن سقوط سبعة قتلى، فإن استعادة الثقة بين المؤسسة العسكرية وحزب الله تحتاج إلى بعض الوقت، وكذلك العلاقة بين العماد ميشال سليمان والحزب. ورغم أن الأخير يفصل بصعوبة بين القائد والمؤسسة، بات يفصل بصعوبة أكبر بين سليمان قائداً وسليمان مرشحاً للرئاسة.
لم تكن أحداث الأحد أول اهتزاز للثقة بين الطرفين. فقد سبقتها حادثة عاصفة في 8 شباط 2007 في الحازمية، عندما أُوقفت شاحنة محمّلة سلاحاً تبيّن أنها للحزب، وأثارت جدلاً واسع النطاق بين الموالاة والمعارضة، تلاها اكتشاف شاحنة أخرى محملة سلاحاً في دورس في البقاع يوم 6 حزيران 2007، جاءت بدورها لتضاعف احتقاناً لم يكتمه الحزب، ولا أمينه العام السيد حسن نصر الله، عندما صادر الجيش قبل أشهر، إبان حرب تموز 2006، شاحنة أسلحة للمقاومة على طريق ترشيش، وبدا بالنسبة إلى الحزب عقبة في طريق مواجهة المقاومة للاعتداءات الإسرائيلية، الأمر الذي أفضى إلى تردّ في علاقة المؤسسة العسكرية بحزب الله لبعض الوقت، قبل أن تُسوّى بزيارة سليمان لنصر الله. إلا أن أحداث الأحد اكتسبت بعداً مختلفاً بسبب الموقع الذي أضحى عليه الجيش، وقد أصبح قائده مرشحاً توافقياً للرئاسة. وخلافاً لما رافق وجوده على رأس القيادة طوال الأعوام التسعة المنصرمة، فتح سليمان قنوات اتصال وحوار وزيارات مع السياسيين من دون استثناء، فبات في قلب الحدث السياسي وتطوراته وتقلّباته، وأحياناً في صلب نتائجه السلبية.
ومع أن لا موقف جدياً وعلنياً بعد من الفريق الشيعي حيال التراجع عن تأييد سليمان مرشحاً توافقياً، يقتضي أن يؤول التقرير إلى استعادة متلازمة للثقة بين الحزب والجيش، وبينه وبين قائده. لم يقل الرئيس نبيه بري في الأسابيع الأخيرة، ولا بعد حوادث الأحد، إنه صرف النظر عن ترشيح سليمان. بل كان أبلغ إليه ـــ بحسب ما يُنسب إلى مطلعين على العلاقة بين الرجلين ـــ قبل ثلاثة أيام من تلك الحوادث في مكالمة هاتفية أن موقفه الشخصي من الاستحقاق الرئاسي لم يتزحزح، ولكنه قلب الأولويات. قبل المهلة الدستورية ـــ ولم يكن متداولاً تعديل الدستور ـــ كان لبري مرشحان، أوّلهما الوزير السابق جان عبيد ثم قائد الجيش، وبعد انقضاء المهلة الدستورية وفتح باب التعديل، ظلّ المرشحان نفساهما دون سواهما، ولكن بأولوية مختلفة: سليمان أولاً وعبيد ثانياً. وكان رئيس المجلس يواجه بذلك حملة رمت إلى تحميله تبعة شائعات راجت عن أن المعارضة تخلّت عن ترشيح قائد الجيش وتفكر في مرشح بديل هو أحد نائبين ـــ وزيرين سابقين. بدوره نصر الله لم يقل إنه تخلّى عن قائد الجيش، وفَصَلَ في اللقاء الذي جمعهما في 28 كانون الثاني، غداة حوادث الأحد، بين ما أقدم عليه الجيش والمرشح الرئاسي.
ويستند الحزب في تقويمه لعلاقته بالمؤسسة العسكرية إلى المعطيات الآتية:
1 ـــ ثقته بأن الجيش لم يبدّل في عقيدته القتالية ضد إسرائيل رغم الانقلاب الخطير الذي طرأ على الوضع الداخلي، وانتقال السلطة من موقع إلى نقيضه، وخروج الجيش السوري. وبفضل سليمان حافظ الجيش على موقع مستقل بين قوى 14 آذار والرئيس إميل لحود، وبينها والمعارضة، وتشبّث بعقيدته رغم الضغوط الكثيرة التي كان يتعرّض لها من تلك القوى بحجة «تنظيفه» من كل ما بقي عالقاً في بنيته من آثار الوجود السوري في لبنان وتدخّل في أدق تفاصيل الجيش. وقد يكون الاتصال الثاني، العلني، لسليمان بالرئيس بشار الأسد في 25 كانون الثاني، بعد أوّل في تموز، خير معبّر عن الجانب الآخر المهم في عقيدة الجيش، وهو أنه ليس معادياً لسوريا على غرار ما تسلك السلطة اللبنانية الرسمية وحلفاؤها.
2 ـــ تدرك المؤسسة العسكرية والحزب على السواء أن تطبيق الجيش للقانون على الأراضي اللبنانية نسبي، يحكمه الاستثناء، ويكاد يجعله يتطبّع ويمسي قاعدة دائمة. وهو أن تطبيق القانون في المناطق اللبنانية هو غيره في الضاحية الجنوبية وفي الجنوب، ولا يخضع لمعيار واحد، بسبب حساسية علاقة الجيش بالمقاومة، ومراعاته تحرّكها بغطاء سياسي رسمي ينتقص من هيبته، ويحمّله وزر ما قد يترتب على ذلك من تجاوز للقانون، الأمر الذي كان يستبعد أي مواجهة بين الطرفين أو سباق على النفوذ العسكري والأمني، إذ بلغ تعاونهما في هذين النطاقين مرحلة متقدمة للغاية في تبادل المعلومات والتنسيق وتسهيل الانتقال.
3 ـــ لم تكن ثمة أوامر من القيادة بإطلاق نار، لا في حوادث الأحد، ولا في تظاهرات الاحتجاج وأعمال الشغب التي تواترت أخيراً. بل كانت الأوامر تقضي، في حالات استثنائية، بإطلاق نار فوق الرؤوس أو بين الأقدام للتخويف فقط. لكن ما حصل خالف التعليمات، فاستخرجت رصاصات قاتلة، من أجساد ضحيتين على الأقل سقطتا الأحد، أطلقت من بنادق الجنود. كان الرصاص صائباً.
والواضح أن الحزب لا يتوقع أن يقال له إن لا مسؤولية مباشرة تقع عليه في سقوط القتلى، ولا يريد أن يصدّق أيضاً ببساطة ما قيل له، وهو أن ما حصل باغت الجميع. بل أمل نصر الله لدى اجتماعه بسليمان أن يكشف التحقيق علناً المسؤولين عما حدث.
4 ـــ ليس بالأمر اليسير وضع الجيش في موقف محرج كالحال التي يُنتظر أن ينتهي بها التقرير، سواء اتهم عسكريين بإطلاق نار متعمّد، أو أنهم انساقوا إليه ارتباكاً بعدما وجدوا أنفسهم في حال تهديد مباشر. وكان سليمان قد ساق الحجة الثانية أمام بري ونصر الله بقوله إن إطلاق النار حصل جرّاء إرباك أصاب الجنود. ومهما تكن خلاصات التقرير، فستضع المؤسسة في مأزق مزدوج: أوّلهما إلزامها التشهير بمن تصرّف من العسكريين خلافاً للأوامر المعطاة لهم حتى لو عوقبوا (وفي الغالب تتسم العقوبة والمحاسبة بطابع السرّية حفاظاً على سمعة الجيش وانضباطه وتجنيبه التشهير والإساءة والاستغلال السياسي). وثانيهما أن تشهيراً كهذا سيُستغل بالقول إن وحدة الجيش وانضباطه لم تحمياه من اختراق مصادر قوته والتلاعب بحركة العسكريين، وإدخاله مجدداً في الجدل السياسي الذي كبّد الجيش ثمنين باهظين عامَي 1975 و1984.