strong>حسن دهيني *
يحب كبار مالكي الأسهم وحيتان المال في شمال القارة الأميركية أن يطلقوا عليه تسمية «الذهب الأبيض» لما يدرّ عليهم من أموال طائلة. إنه الأسبيستوس، تلك المادة المستخرجة من باطن الأرض والمصنعة على شكل أليافٍ شائعة الاستعمال في عوازل الكهرباء والأنابيب ووسائل التدفئة والتكييف، وفي صناعة صفائح وأنابيب إسمنت الأسبيستوس المعروفة بالأترنيت.
مع أن معظم الدراسات أثبتت أن التعرض لهذه الألياف عبر التنشّق يسبب أمراضاً صدرية حادة أخطرها سرطان الرئة، وأن التعرض عبر مياه الشفة قد يسبب أوراماً في الجهاز الهضمي. إلا أن استيراد الأسبيستوس واستعماله في منطقة الشرق الأوسط في ازدياد مستمر. تُظهر إحصاءات أُجريت منذ عام 2003 أن استيراد لبنان للأسبيستوس هو عشرة أضعاف ما يُستورَد في دول كبيرة محيطة، كالسعودية والعراق وسوريا، مع العلم بأن وزارة البيئة أصدرت قراراً في عام 1996 يمنع استيراد أنواع من الأسبيستوس، ويخضع أنواعاً أخرى لإجازة مسبقة. لكن في لبنان تبقى العبرة في التطبيق. فقد أُجيز لشركة الأترنيت في شكا استيراد الأسبيستوس واستخدامه، كما أصر مجلس الإنماء و الإعمار في عام 1995 على مد شبكة مياه للشرب في منطقة عكار مستخدماً أنابيب الأترنيت، غير آبهٍ باعتراض المواطنين والجمعيات الأهلية، ومتجاهلاً الدراسات ذات الصلة وتوصيات منظمة الصحة العالمية بجر مياه الشرب بطرق
بديلة.
وفيما الدولة غير ملتفتة لخطر الأسبيستوس على صحة المواطن ـ لا بل أسهمت في تناميه ـــــ أطلّت حرب تموز 2006 حاملةً معها غبار ما يقارب 500 مبنى في بيروت و ضواحيها؛ عدا البيوت والمباني في المناطق الأُخرى المستهدفة. وترجّح تقارير خبراء دوليين أن معظم هذه الأبنية المدمرة وغيرها مما أُعيد إعمــــــاره إبان اجتياح 82 والأحداث التي تلته تحتوي على كمية كبيرة من ألياف الأسبيستوس التي أصبحت الاآن تمثّـــــل خطراً حقيقياً مزمناً بعدما تناثر غبارها في الهواء نتيجة التدمير الحاصل، ونتيجة عمليات إزالة الردم ونقله، ولاحقاً ورشات إعادة الإعــــــمار الموعودة. وإذا كان جهابذة السيــــاسة يُجمعون على أن علّة علل منطقتنا العربية هو «الذهب الأسود»، أي النفط، فإن العديد من الخبراء المحليين والدوليين يرون أن غبار «الذهب الأبيض» في أعقاب حرب تموز سيكون له التأثير الأسوأ على الصحة العامة في لبنان لسنوات عديدة قادمة. كلّ ذلك ولم تبادر الجهات الرسمية المعنية بإجراء أي تقويم أو دراسة لمستوى تلوث الهواء بمادة
الأسبيستوس.
هذا في لبنان طبعاً. أما في الولايات المتحدة على سبيل المثال، وتحديداً في مدينة نيويورك، فبعد تدمير مبنى برج التجارة العالمي في 11 أيلول 2001 نشطت الهيئات الحكومية المحلية والفدرالية لتحديد نسب الأسبيستوس في الهواء. مع العلم أن ولاية نيويورك كانت قد حظّرت استخدام مادة الأسبيستوس منذ عام 1978، ومنذ ذلك الحين أزالت القسم الأكبر منه في المباني المختلفة، بما فيها مبنى برج التجارة العالمي. ومع ذلك، أثبتت دراسات أُجريت في محيط الأبراج المدمرة أن نسب الأسبيستوس تمثّل خطراً على السلامة العامة. فكيف في لبنان، حيث إنّ مساحات البناء المدمرة وكميات الإسمنت، في ضاحية بيروت وحدها، تُقدّر بأربعة أضعاف ما دمّر في نيويورك.
وكما في نيويورك، كذلك في فلسطين المحتلة. فقد أدىّ تدمير حوالى ثلاثين مبنىً بصواريخ المقاومة خلال حرب تموز إلى استنفار وزارة البيئة في كيان العدو للدراسة والحد من مخاطر التعرض لغبار إسمنت الأسبيستوس، مع أنها كانت قد حظّرت تصنيعه واستخدامه منذ عام 1997.
فهل تحذو الدولة في لبنان حذو الدول البعيدة والقريبة، العدوّة منها والصديقة والشقيقة؟ أم يبقى المواطن في موقع الضحية، عالقاً بين مطرقة الهمجية الإسرائيلية وسندان إهمال الدولة، وبين ذهبٍ أبيض لا ينعم ببريقه وآخر أسود يشعر بلهيبه. وهل تباشر الدولة بتطبيق القوانين والقرارات المتصلة بالأسبيستوس وغيره من السموم؟ وهل تشـرع في تطبيق معايير السلامة العامة وتطوير التشريعات البيئية لحماية مواطنيها؟ وهل تبادر إلى مطالبة إسرائيل بتعويضات عن تلوث الهواء والماء، فضلاً عن الحجر والبشر؟
أسئلة برسم الرأي العام علّها تجد صدىً على أعتاب عهدٍ جديد لم تقرع أجراسه بعد.
* دكتور في علم السموم
وأستاذ جامعي

المخاطر الصحية

تثبت دراسات أجريت في مناطق مختلفة من العالم أن ألياف الأسبيستوس موجودة في رئتي كل ساكن من سكان المدن. تتكون مادة الأسبستوس ـــــ وتعني باليونانية المادة الخالدة ـــــ من ألياف غنية بالسيليكا، ولها استخدامات واسعة في مجالي الصناعة والبناء لكونها عازلة للحرارة ومقاومة للاحتكاك. يستعمل الأسبيستوس لتغليف الأنابيب والمراجل البخارية، كما يمزج مع مواد البناء لإنتاج البلاط والعوازل أو مع الإسمنت لإنتاج الصفائح والأنابيب والأجران. ويتعرض الإنسان لألياف الأسبيستوس المتطايرة بواسطة التنشق عند استخراجه أو تصنيعه أو استعماله أو إزالته أو تكسير الأنابيب أو عند أعمال الهدم وإزالة الأنقاض. كما يمكن التعرض له بواسطة الجهاز الهضمي إذا كانت مياه الشرب غنية بأليافه.
وتوجد أنواع مختلفة من الأسبيستوس، أكثرها استعمالاً الكريسوتايل (الأسبيستوس الأبيض) والكروسيتودايل (الأسبيستوس الأزرق)، وكلا النوعين يسببان تليّفاً في الرئتين (asbestosis) أو سرطاناً فيهما أو في غشائهما (mesothelioma). ويزداد الخطر بازدياد التعرض أو تكراره، إلا أن كثيرين يصابون بالسرطان، حتى لو كان التعرض محدوداً كماً وزمناً. وقد تمضي أكثر من 40 سنة قبل ظهور السرطان بعد التعرض الأول. وتروّج الدول والشركات للأسبيستوس الأبيض على أنه أقل ضرراً من النوع الأزرق، أو يمكن الوقاية منه بالرغم من الدراسات والتوصيات العلمية المعاكسة لهذه المقولة.