جان عزيز
تجزم أوساط سياسية قريبة من رئيس المجلس النيابي نبيه بري بأن الموقف الفرنسي الأخير من سوريا، فيه الكثير من عدم الصحّة، فضلاً عن عدم الفاعلية أصلاً وأيضاً.
وتكشف هذه الأوساط أن ثمّة مسؤولية أساسية في أزمة الأيام الأخيرة، تقع على الملابسات التي أحاطت بالدور الفرنسي. ذلك أن يوم الجمعة 28 كانون الأول، توصّلت المبادرة الفرنسية، بعد التنسيق عربياً ودولياً مع قوى الموالاة، إلى وضع صيغة حل جديدة للمأزق الرئاسي اللبناني. وتؤكد الأوساط المطلعة نفسها أن هذه الصيغة عادت إلى المبدأ الذي انطلقت منه مساعي باريس، قبل أسابيع، أي شمولية المعالجة. فتضمّنت مقترحات محدّدة لمسائل أربع: انتخاب رئيس جديد للجمهورية، تأليف الحكومة الأولى للعهد المقبل، قانون الانتخابات النيابية الجديد، وشراكة القوى السياسية في الإدارة العامة للدولة، في مختلف التعيينات.
وإذ تتحفّظ هذه الأوساط على إيضاح تفاصيل الآلية لحل تلك البنود الأربعة، تكشف أن هذه الصيغة الفرنسية المحدثة، سلّمت يوم الجمعة الفائت إلى أكثر من جهة معنية بالأزمة، في بيروت وفي دمشق. وتؤكد أن المسؤولين السوريين سارعوا إلى تقديم موقفهم المتكرر منذ فترة حيال الطروحات اللبنانية المحالة إليهم، وهذا الموقف الأخير كان في شقين: أولاً، لا اعتراض إطلاقاً على ما ورد في الاقتراح الفرنسي والموافقة على كل تفاصيله من دون أي ملاحظة. وثانياً، التأكيد على أن القرار النهائي في شأن إقرار الاقتراح يعود إلى الجهات اللبنانية المعنية.
وتتابع الأوساط نفسها، لتؤكّد أن الورقة الفرنسية الجديدة لم تلبث أن اقترنت بموافقة مماثلة من القوى المعروضة عليها في بيروت. وفيما لم تكشف هذه الأوساط ما إذا كانت الموافقة البيروتية قد شملت كل أطراف المعارضة، أكدت أن الصيغة الفرنسية عادت إلى من أرسلها مقرونة بالموافقتين اللازمتين سورياً ولبنانياً، وهو ما أعاد إحياء الأمل بإنجاز الاستحقاق الرئاسي في أقرب وقت. حتى إن البعض لبث منتظراً ليل الجمعة ــ السبت، في رهان منه على أن الإجماع المطلوب للانتخاب قد تحقّق بموجب الورقة الفرنسية الأخيرة، وأن التنفيذ سيكون خلال ساعات.
وتكشف الأوساط نفسها أنه وسط ترقّب الجميع للجواب الفرنسي، وخصوصاً في ظل الجهوزية الكاملة للرئيس بري للتنفيذ، كانت المفاجأة الأولى غياباً فرنسياً عن السمع. فمرّت الأيام الأربعة من الجمعة حتى أمس الاثنين، اليوم الأخير من السنة، من دون أي «إشارة حياة» من جانب الفريق الفرنسي الذي تولّى إعداد الصيغة وإرسالها وتلقّي الموافقات عليها. وفيما اعتقد المعنيون في بيروت أن المسألة قد تكون مرتبطة ببعض الترتيبات الشكلية أو باعتبارات الوقت، جاءت المفاجأة الثانية عبر الموقف العنيف الذي وجّهه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي إلى المسؤولين السوريين من مصر، على خلفيّة تحميل سوريا جزءاً من مسؤولية عرقلة الاستحقاق.
حيال هذه الوقائع تشير أوساط معارضة إلى احتمالات ثلاثة، قد تكون قائمة خلف هذا السلوك الفرنسي المستغرب.
الاحتمال الأول، أن يكون ثمّة عدم تنسيق أو عدم تواصل على الأقل، داخل الإدارة الفرنسية الحالية. بحيث تكون الصيغة التي أرسلتها باريس إلى كل من بيروت ودمشق، غير صادرة عن دوائر قصر الإليزيه أو غير منسّقة معها. وهو ما يفتح الباب أمام التفكير في أن يكون ساركوزي وفريقه غير موافقين على مضمونها وبالتالي تراجعا عنه بعد تلقّي الموافقات عليه، أو أن يكونا لم يتلقّيا أصلاً تلك الموافقات قبل إعلان موقف أمس من مصر.
الاحتمال الثاني، أن يكون هذا المسعى الفرنسي قد انطلق من دون تنسيق مع الإدارة الأميركية، أو من دون حيازته على موافقة واشنطن. وهو ما جعل أصحابه يتراجعون عنه بعد تكلّله بالنجاح لبنانياً. علماً أن هذا الاحتمال يفتح مجدداً باب الاجتهاد الاستطرادي، في أن تكون واشنطن قد اطلعت على الصيغة الفرنسية ووافقت على تجربتها، في اعتقاد منها أن الرفض سيكون مصيرها في بيروت أو دمشق، بما يثبت للفرنسيين وجهة النظر الأميركية الجامدة في إثبات لا جدوى المبادرة الباريسية.
ويبقى الاحتمال الثالث، في أن يكون القرار بإجهاض الورقة الفرنسية في اللحظة الأخيرة، عربي المصدر، ونفّذته عاصمة عربية متورطة في شبكة التعقيدات اللبنانية. وتشير الأوساط المعارضة بوضوح إلى الرياض. وترى أن ثمّة عقدة أساسية لا تزال عالقة، وهي تتمثّل في الموقف السعودي المتحفّظ حيال أي تسهيل للمعالجة المطلوبة لبنانياً، بما يعيد تلميع صورة سوريا، ويضمن انفتاحها غربياً ودولياً، ويمهّد الطريق لإنجاح القمة العربية المقررة في دمشق في آذار المقبل. وتسجّل الأوساط نفسها الدلالة الواضحة بشأن هذه العقدة في كلام الرئيس بري يوم أمس، عن أن مصالحة العرب في ما بينهم كفيلة بحل الأزمة الراهنة.
وفي جميع الأحوال، يظل الواضح أن البديل لدى القوى الثلاث «المتّهمة»، أي واشنطن أو باريس أو الرياض، هو إدارة الفراغ القائم، والتصعيد التدريجي في إدارته، وهو ما كان «أمر اليوم» الذي تلاه دايفيد ولش في زيارته الأخيرة إلى بيروت.