أنطوان سعد
كان عام 2007 عام الخيارات المستحيلة التي كان على البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير اتخاذها، مع علمه المسبق بأنها غير مجدية، ولن تؤدي إلى ما كان يصبو إليه

ورغم إدراك البطريرك الماروني نصر الله بطرس صفير لتعقيدات الوضع اللبناني عموماً والمسيحي خصوصاً وتشعباته وامتداداته الإقليمية والدولية، أخذ صفير خياراته الصعبة احتراماً منه للإرادة الشعبية غير الحزبية التي كانت ولا تزال تريده أن يتدخل ويؤنّب ويحسم، ويعيد الأمور إلى نصابها، ومن ثم استجابة لمداخلة القوى المحلية والدولية التي حثّته وقدمت له الوعود والمناشدات العلنية والضمانات بأن تحظى أي مبادرة منه بالدعم الكامل غير المشروط.
لم يكن البطريرك الماروني في الواقع يعلّق آمالاً كبيرة على نجاح أي من المبادرات الثلاث التي أطلقها خلال عام 2007 وعلى الضمانات والوعود التي قُطعت له. كان همّه الأوحد ألّا يذكر التاريخ، أن بطريرك الموارنة، في الظرف الصعب الذي كان يجتازه لبنان سنة 2007، لم يبادر إلى ما قد ينقذ لبنان الذي تراه البطريركية المارونية الملاذ الآمن والحر لها ولغيرها من الأقليات الدينية والمذهبية التي تعيش في هذه المنطقة.
لقد قام صفير خلال العام المنصرم بثلاث مبادرات على الأقل لتخفيف وطأة الأوضاع المزرية التي يعيشها اللبنانيون، مع علمه المسبق بالصعوبات الكبرى التي تعترض طريقها، وفي ظل وجود طبقة سياسية يمكن بكل بساطة اتهامها بأنها غير خلّاقة وغير قادرة على استنباط الحلول للأزمات التي تفتعلها هي أو القوى المؤثرة على مجريات الأحداث في لبنان.
المبادرة الأولى: الثوابت والميثاق
أطلّ عام 2007 بنزاع سياسي حاد بين المعارضة والموالاة، كان يخشى أن يجد منفذاً له في الساحة المسيحية التي كان الجمر فيها تحت الرماد منذ اغتيال الوزير بيار الجميل وما صحبه من أعمال تخريبية لمراكز التيار الوطني الحر. خشي صفير آنذاك من اندلاع مواجهات وأعمال عنف بين التنظيمات المسيحية، وخصوصاً بعد المعلومات التي بدأ يجري التداول بها، في شأن اتخاذ التيار العوني قراراً بالتصدي في الشارع لكل محاولة للتعرّض لمراكزه الحزبية ومناصريه.
وبعدما رأى صفير ما جرى خلال يوم الإضراب، وخصوصاً لجهة قرار فتح الطريق بالقوة من جانب بعض الأطراف، قرر نزولاً عند إلحاح الكثير من الجهات المسيحية غير المصطفّة وراء الموالاة والمعارضة، متابعة المبادرة التي أطلقها مجلس المطارنة الموارنة في مطلع كانون الأول 2006: وثيقة الثوابت التي جرى التنازع بين الأكثرية والمعارضة على ترتيب البنود الواردة فيها، وميثاق الشرف في التعامل بين القيادات المسيحية، ولا سيما لجهة عدم استعمال العنف في ما بينها.
وقد جال النائب البطريركي العام المطران سمير مظلوم والمطرانان بولس مطر ويوسف بشارة على القيادات المسيحية. وبعد مساعٍ حثيثة، وافق جزء من هذه القيادات على توقيع ميثاق الشرف، لكن من غير أن يلتزم به طويلاً، فيما امتنع الجزء الآخر حتى عن التوقيع.
سيد بكركي لم يُفاجأ بالنتيجة الهزيلة التي حصدتها مبادرته. فهو يرى أنه لو كانت القيادات المسيحية حريصة على قواعدها ومحازبيها، لما كانت قد قبلت في الماضي أن تجرّ إلى التقاتل الدموي في ما بينها من أجل تعزيز نفوذ أو تأمين غلبة مشروع على آخر. وإذا لم تستجب في الماضي لنداءات الكنيسة ووقف التقاتل والتدمير فهل ستستجيب لدعوتها من أجل توافق سياسي مسيحي يشكل نواة لتوافق وطني عام؟ وقد أظهرت أحداث الثالث والعشرين من كانون الثاني 2007، بغضّ النظر عن حق التيار الوطني الحر وحلفائه بقطع الطريق الدولية طوال النهار وربما أكثر، أن الروح العدائية لا تزال قائمة ومتحكّمة بخيارات بعض الجهات.
المبادرة الثانية: جمع القيادات
مع اقتراب موعد الاستحقاق الرئاسي ومشارفة المهلة الدستورية على الانتهاء دون تبلور اتفاق على مرشح توافقي، تحرك سيد بكركي اقتناعاً منه بأن اتفاقاً بين القيادات المسيحية على هذا الاستحقاق من شأنه أن يفكّ عقدة الاستحقاق باعتبار أن هذا الاتفاق سوف ينسحب أيضاً على حلفاء كل من الطرفين. غير أن هذه المبادرة تعثّرت أيضاً لتضاربها مع مفكرة الطرفين المسيحيين المتنازعين. والطريف في هذا الموضوع هو أن اثنين من أركان الطرفين سبق أن دعيا إلى عقد اجتماع مسيحي في بكركي للتداول في شؤون البيت المسيحي، إضافة إلى مسألة رئاسة الجمهورية: رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية الدكتور سمير جعجع دعا إليه عندما كان لا يزال في باريس بعد خروجه من سجنه السياسي، لكن رئيس تكتل التغيير والإصلاح، العماد ميشال عون، الخارج منتصراً من الانتخابات النيابية، لم يكن على استعداد لمشاطرة صفة تمثيل المسيحيين مع أي من القيادات المسيحية الأخرى. ثم انقلبت الصورة عندما أعلن الجنرال رغبته في عقد اجتماع مسيحي في بكركي غداة اغتيال الوزير الجميل، لكن جعجع في حينه لم ير فائدة من هذا الاجتماع ربما لرغبته في عزل غريمه مسيحياً إمعاناً في إحراجه بسبب تحالفه مع حزب الله.
الجدير ذكره أن هذه القيادات منذ أن أصبحت في الصورة السياسية لم تزر بكركي مجتمعة قط، ولا حتى ثنائياً، إلاّ في الآونة الأخيرة عندما جمع البطريرك صفير كل طرف منهما على حدة.
المبادرة الثالثة: لائحة المرشّحين
بنتيجة المناشدات، قدّم البطريرك لائحته بعد 51 يوماً على بدء المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية، وقبل 9 أيام على انقضائها، لكنه كان يريد استبعاد تساؤل واحد هو: ترى لو أنه قدم لائحة فهل كانت جرت الانتخابات؟ ليس في لبنان من يطرح هذا السؤال اليوم. فيما تراوحت مواقف القيادات المسيحية الرئاسية من مبادرة صفير بين التشفّي وتحميله بعض المسؤولية في الوصول إلى الحائط المسدود. طبعاً، لا أحد غير السياسيين المسيحيين المعنيين مباشرة بالاستحقاق أو لهم مصلحة خاصة فيه، ينحو باللائمة على سيد بكركي، لا رجال السياسة غير المسيحيين، من الموالاة والمعارضة، ولا المراجع الدولية.
لم يسع البطريرك صفير يوماً إلى الأضواء أو الأدوار الرئيسية، بل اختار أن يتراجع عن الصفوف الأمامية بعد الانتخابات النيابية سنة 2005، مشيراً إلى أن عودة حرية العمل السياسي إلى لبنان تفترض أن يتولى السياسيون المسيحيون مسؤولية التعاطي في المسائل المتعلقة بالشأن العام. وانحصرت عظاته حتى ربيع 2006 بالدفاع عن الفقراء والمهمّشين والإشارة من وقت لآخر إلى مسألة عدم التوازن في الإدارة والمؤسسات العامة وفي قوانين الانتخاب. وعندما كان يُسأل عن سبب تراجعه عن الواجهة كان يقول: «لإفساح المجال أمام الشباب». و«الشباب» في قاموس البطريرك هم القادة السياسيون المسيحيون.
بعد فترة سُئل عن رأيه بالأداء السياسي لـ«الشباب» فأجاب: «إبّان الثورة الفرنسية، هرب النبلاء إلى بريطانيا. وعندما سقط نابليون عادوا «ورجعوا لحركاتهم» فقال عنهم شاتوبريان: «لم ينسوا شيئاً، لم يتعلّموا شيئاً، ولم يفهموا شيئاً، وكذلك الشباب».



المرارة وتكرار الخطأ

من يعرف البطريرك الماروني يعرف حجم المرارة التي أصابته بعد مبادرته بتقديم الأسماء الـ 5 إلى السفير الأميركي جون مكارثي في العام 1988. وهو لم يخفِ هذه المرارة في كل مرة أثير فيها الموضوع. وحتى الساعات الأخيرة التي سبقت تقديمه اللائحة لجان كلود كوسران، كان يميل إلى عدم القبول بهذه المهمة التي كان وزير الخارجية الفرنسية برنار كوشنير ورئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس تيار المستقبل سعد الحريري يناشدونه بإلحاح الاضطلاع بها.