strong>محمد محسن
• هوّة في التواصل فهل تردمها السياسة؟

لا يخفي كثير من الشباب محاولاتهم الحصول على إجابات دينية عن أسئلة تؤرّقهم لكنهم يشكون الهوة التي لا يستطيعون تجاوزها مع رجال الدين. الأخيرون التفتوا لهذا الأمر إلّا أنّ محاولاتهم لحلّه لا تتعدى البحث عن أسلوب مختلف للخطاب... أو اللجوء إلى السياسة وسيلةً للتعبئة

تبدأ المحاضرة وتبدأ معها مجموعة الأسئلة: «أبونا، لماذا يتدخل البطريرك في السياسة ما دامت ممنوعة عن رجال الدين؟». سؤال في جهة أخرى «مولانا، لماذا لا يتفق رجال الدين على ممارسة سياسية واحدة بما أن الدين واحد؟»،
مجدّداً: «أبونا، ما هي حدود عملنا السياسي في المسيحية؟»، وسؤال في المقابل: «مولانا، من هو الشهيد في الإسلام؟».
هذه الأسئلة التي يطرحها الشباب على رجال الدين ليست نموذجية، لكنها تعكس اختلاط السياسة بالدين إلى حدّ كبير، وخصوصاً إذا علمنا أن السؤال الأكثر شيوعاً الذي يسأله المحازبون هو: «أحرجونا اليوم في الجامعة لدى طرح هذا الموضوع، كيف نجيبهم غداً؟»، بحيث باتت الأسئلة «المعتادة» دينياً عن العلاقات بين الجنسين مثلاً شبه نادرة.
نتائج إجابات «أهل الذكر» ليست مضمونة، فقد يجد المشايخ والكهنة اقتناعاً لدى السائل تعكسه هزّة رأس مع وجه مبتسم يوحي بالرضى عن الجواب، أو امتعاضاً يظهر حين تكون الإجابة مبهمة أو غير مقنعة، فيتبعها نقاش من نوع آخر تسوده الحدّة، يبدأ غالباً بكلمة «بس يا مولانا، أو بس يا أبونا..»، وبين الضفتين يبقى جزء من «الحائرين» عاجزاً عن التعبير لا سلباً ولا إيجاباً.
يمثّل اللجوء إلى رجال الدين، للاستفسار عن مسألة معينة، سلوكاً عاماً لدى جيل واسع من الشباب المتديّن الذي ينتظر «حلاً شرعياً أو لاهوتياً». لكنهم لا يخفون شعوراً عاماً بـ«هوّة» فاصلة بينهم وبين رجال الدين. هوة تصغر أو تتسع وفق عمر رجل الدين... وثقافته

أين؟ كيف؟ متى؟

محاضرتان في الأسبوع معدّل يكفي الكثير من الشباب «فلدينا الكثير من الدراسة والأشغال، والوقت لا يسمح بأكثر من ذلك» يقول راغب، الشاب المواظب على الصلاة في المسجد. يروي تجربته مع رجال الدين «قبل عامين أثرت أسئلة حساسة كانت تراودني دائماً عن الحياة الشخصية للأنبياء، فما كان من الشيخ الذي كان يلقي المحاضرة إلا أن دعاني للخروج من قاعة المسجد بوجه عابس ودون أن يجيبني!!». الشيخ الطاعن في السن لم يُثنِ راغب عن طرح تساؤلاته لكن هذه المرّة على عالم دين من الجيل الشاب، فقد أوجدت هذه الحادثة في نفسه «عقدة من المشايخ الكبار في السن». التجربة مع الشاب كانت مختلفة كما يصفها راغب «أجابني عن جميع الأسئلة ولم يُبدِ انزعاجاً من حساسيتها، ودخلنا بعدها إلى مواضيع أخرى كالعلاقات الجنسية والتجارة».
يستغرب محمد طالب العلوم الدينية الضجة المثارة حول موضوع رجال الدين الشباب. القوانين مختلفة حيث يدرس في أحد الحوزات، وخصوصاً بعد أن تتوطد العلاقات أكثر فأكثر بين الطلاب وأساتذتهم. «منطوشن بالأسئلة» عبارة اختصرت أسلوب التعامل بين طلبة العلوم الدينية ومن كانوا على مقاعدهم سابقاً «نستطيع أن نسأل عن كل شيء، حتى الأمور الجوهرية في الدين لا مانع من الدخول بشكل عميق فيها». ولا ينفي محمد أن بعض الأسئلة تبقى دون أجوبة واضحة «ربما لأننا لا نفهم المقصود منها» فيطلب الأستاذ أبحاثاً في موضوع السؤال حتى تتضح الفكرة، ولكن بشكل عام تأتيهم الأجوبة «المقنعة»، وحق السؤال والبحث مشروعان بصورة شبه مطلقة».

ظاهرة متزايدة

الإقبال المتزايد من الشباب على التديّن والحضور إلى دور العبادة ومتابعة المحاضرات الدينية ، وخصوصاً تلك التي يلقيها رجال دين شباب بات أمراً واضحاً ومؤكداً بالنسبة إلى مسؤول الوحدة الثقافية في «حزب الله» الشيخ أكرم بركات، الذي ردّ الأمر إلى سببين، أولهما «الخطاب الديني في الساحة الإسلامية الذي لا يفصل الناس عن علمهم وعملهم، والذي يدخل في صميم حاجات الناس ومشاكلهم وخصوصاً الشباب منهم. والسبب الثاني يرتبط بالواقع السياسي وتحديداً حرب تموز إذ لا يمكن فهم النصر الذي تحقق فيها بمعزل عن الخلفية الدينية لصانعيه وهذا جذب الكثير من الشباب الذي كان متردداً قبل ذلك».
رئيس معهد العلوم الإنسانية في الجامعة اليسوعية الأب فادي ضو رصد بدوره هذا الإقبال في الأوساط المسيحية، لكنه قسمه بين «إقبال على مراكز التثقيف ونوع آخر هو الدراسات اللاهوتية في الجامعات»، لافتاً إلى أن «الكثير من الشباب في الوسط المسيحي لا يزال يشكو من ضعف في التحصيل الديني». لافتاً الى «ابتعاد الشباب المسيحي المتدين عن السياسة، لعدم اكتفائهم بما تقدمه إليهم». وزاد على ذلك دوراً آخر للمجتمع المرتكز على العلم، واضعاً إياه في خانة العوامل المشجعة على دراسة الدين المسيحي والأديان الأخرى.
وفي الإطار نفسه لم يُبدِ عضو هيئة رعاية السجناء في دار الفتوى الشيخ وليد زهري إيجابية تجاه التدخل الديني في السياسة «فالأخيرة لها أربابها» كما يقول، حاصراً مهمة رجال الدين في زاوية التواصل مع الشباب بهدف الهداية وإصلاح مجتمعهم من الرذائل والذنوب.

أين جديدكم؟

الشاب العلماني وقف مبتسماً... ابتسامة توحي بالسخرية على حوار دار بين رفاقه في الجامعة عن أفضلية التعامل مع رجل دين من الجيل الشاب. «الموضوع لا يهمني أصلاً، أنا أسعى إلى منع دورهم في المجتمع. يتدخلون في كل شيء. فليبقوا في الدين ولا شأن لهم في ما عداه وخصوصاً السياسة، الفتن تأتي بسبب تدخلهم». بهذه الحدّة اعترض أحمد على رجال الدين «بما لهم وما عليهم». وأكبر مآخذهعلى شبابهم وشيبهم يكمن في خطابهم التقليدي، البعيد دائماً عن كل ما هو جديد، «الزمن في تطور مستمر ورجال الدين ما زالوا يكلموننا في الماورائيات»، متسائلاً عن الجديد في الطرح و الخطاب؟؟
الجديد الذي طلبه أحمد وجد أجوبة مختلفة عند الأب والشيخين. لا يعوّل بركات في تجديد الخطاب على مسألة عمر رجل الدين بقدر ما يتكل على «ذهنية اجتهادية موجودة في الساحة الشيعية تفرض البحث عن كل ما هو جديد»، ويضيف عاملاً آخر يتمثل بالبيئة الاجتماعية التي يأتي منها رجل الدين. أمّا في ما يتعلق بأسلوب الخطاب، فرأى أنه «كلما تعمّق رجل الدين في حاجات الشباب، استطاع أن يقدّم المضمون الديني بخطاب يلامس واقعهم»، مشدّداً على أن المحاضرات لا تأخذ الطابع الوعظي بل الحواري.
من جانبه، يبتعد الأب ضو في مسألة تجديد الخطاب عن الحقائق الإيمانية الأصلية «التي لا تتغير». وتتجه عملية التجديد في اتجاهين، الأول يظهر في «ضرورة تقديم الحقائق الدينية بلغة مفهومة لدى الشباب»، فيما يأخذ الاتجاه الثاني «بعداً تطبيقياً كعيش الحقائق الإيمانية وترجمة الالتزام الديني في الحياة اليومية، ومن هنا نجد أن خطاب رجال الدين الشباب بمجمله يأخذ بعين الاعتبار المتغيّرات الاجتماعية».
أمّا زهري، فقد رأى أن «إظهار التداعيات السلبية لترك الدين بشكل عملي هو الشيء الجديد الذي يحتاج إليه المجتمع وخاصة طبقة الشباب»، معطياً في الوقت نفسه مساحة واسعة للاستعانة بالتجارب العلمية الحديثة وتطوّر العلوم ووسائل الاتصال عما كانت عليه سابقاً.

نقد وتساؤلات

بالتوازي مع ما يمتلكه رجال الدين من سلطة معنوية، يسجّل الكثيرون انتقادات لدورهم لجهة تعبئة الشباب طائفياً، إضافةً إلى تناقض سلوكيات الكثير منهم مع الخطاب الذي يجاهرون به أمام الناس.
لا يفهم زياد «كيف يخرج رجل دين شاب من محاضرة في «فضل الزهد» ليشغّل سيارته بالـ«ريموت كونترول»، ويتجه إلى بيته الفخم حيث تكون الوليمة جاهزة، فيما كثير من الناس ينامون جوعى!!».
ويعلّق أحمد العلماني على مسألة التعبئة الطائفية للشباب.
لم ينف الأب ضو وقوف جزء من رجال الدين الشباب وراء عملية التعبئة الطائفية، وذلك بحسب رأيه انطلاقاً من «الخوف على المصير المسيحي»، رافضاً هذا التحريض من أساسه.
ويأخذ على الكثيرين انهماكهم في الأمور التنظيمية والإدارية، بشكل يجعل من رجل الدين «رجل أعمال» بعيداً عن هموم الشباب ومشاكلهم.



نحو «شبشبة» الدين؟

منذ فترة ليست بقصيرة ظهر على الفضائيات الدينية دعاة من صفوف الشباب استطاعوا استقطاب أعداد كبيرة من هذا الجيل نحو التديّن. ويعدّ الداعية الإسلامي عمرو خالد (مصر) من أكثر الدعاة الذين استطاعوا جذب الشباب نحو أفكارهم، وأثارت حلقاته التي كانت تبثها قناة «إقرأ» جدلاً واسعاً حول بعض المفاهيم التي طرحها. وقد تجاوز خالد مسألة اللباس الديني المتعارف عليه بالنسبة إلى رجال الدين إلى اللباس الغربي، أو اللباس المتداول بين الشباب. ويظهر الدعاة الشباب في هذه الأيام بملابس مستوحاة من «الموضة العصرية» للشباب، في خطوة يمكن إدراجها ضمن خانة التقرّب من أبناء جيلهم، وأيضاً للعبور نحو الانفتاح على الغرب ولو اقتصر هذا الأمر على الصورة الخارجية. وتشهد الأوساط الدينية في الوسط السنّي جدلاً واسعاً حول ظاهرة الدعاة الشباب، بين من يرى أنّهم دخلاء على الدعوة والإفتاء «لقلّة خبرتهم»، ويلوم الفضائيات التي تسهم في شهرتهم، وبين مؤيد لدورهم باعتبارهم أقرب إلى الشباب من هيئات الإفتاء، التي لم تستطع تأمين البدائل للشباب على مستوى التبليغ والأمور الشخصية الخاصة، كما استطاع هؤلاء الدعاة أن
يفعلوا.
وفي الوسط الشيعي لا تشير التجارب إلى أن إقبال الشباب مرتبط بسنّ المحاضر، بل بنوعية الخطاب ودرجة علم الخطيب. على سبيل المثال، يعدّ المرجع السيد محمد حسين فضل الله من أقرب رجال الدين إلى قلوب وعقول الشباب رغم تجاوز عمره عتبة السبعين عاماً، حيث يشهد مسجد الإمامين الحسنين في حارة حريك حضوراً كثيفاً لفئة الشباب أثناء إلقائه خطبه وذلك إيمانا منهم بأفكاره ورؤيته
الانفتاحية.
تبقى ظاهرة رجال الدين محل أخذ وردّ بين المؤيدين لدورهم والمعارضين له، إلا أن جيلاً جديداً منهم يدخل ساحة العمل العام لتحقيق مشروع لنشر الثقافة والمفاهيم الدينية ــــــ وإن بأساليب مختلفة ــــــ لم يثبت حتى الآن ما إذا كان سينجح أم سيترنّح تحت ضربات الفشل كما سبقته إلى ذلك الكثير من المشاريع التي سيطرت ولمدة طويلة على العامة وخصوصاً الشباب.