جان عزيز
ماذا حاول ميشال عون أن يقول أمس في وثيقة الطروحات المسيحية اللبنانية؟ ولماذا هذا التوقيت وهذا المضمون، اللذان ظهرا كأنهما خارج سياق الاستحقاق الرئاسي وصيغة تعديل وسلّة حل وسوى ذلك من حيثيات صورة، بدا ميشال عون خارجها، أو فوقها، أو هو في الأساس؟
غير أن التدقيق في «الطروحات» يشير إلى قراءة أخرى. لكأن عون يدرك أن التطورات تؤذن بنهاية حقبة من التاريخ اللبناني المعاصر. والأهم، كأنه يخشى أن تكون المرحلة المقبلة، على حساب مكتسبات المرحلة السابقة، وخصوصاً في مسائل السيادة والميثاق والحريات. ذلك أن انتخاب رئيس جديد، في السياق المحكي عنه اليوم، سينهي خريطة القوى السياسية الراهنة، ويعيد خلط المواقع، ما قد يطيح كل ما تحقّق أو تم التطلّع إلى تحقيقه في العامين الماضيين ونصف العام. وفي هذا السياق بدا ميشال عون كمَن يقرأ لما بعد هذه الحقبة، لا بل للتاريخ، أين ارتكبت الأخطاء التي سبّبت هذا التفريط بمكتسبات الاستقلال الثاني، وكيف يمكن تصحيحها؟
وتشي طروحات عون بأن 3 ثغرات أو هفوات أو خطايا، هي ما نقل «ثورة الأرز» بكل أهلها ولبنانييها ومسيحييها، إلى تسوية الوجوه السود في «الفندق الفينيقي»، أول من أمس.
«الهفوة» الأولى ارتكبت ضمن الدائرة المسيحية. ذلك أنه بمعزل عن سياسات الحقد والكيدية والشخصنة وتصفية الحسابات وباطنية الأداء وازدواجية القلب واللسان والوجدان والممارسة، يظل الثابت أن السقطة المسيحية الأساسية التي سجلت خلال الفترة الماضية، كانت نتيجة عدم القبول بالمنطق الديموقراطي البسيط داخل الجماعة المسيحية نفسها. فبتعبير تبسيطي كامل، وجد المسيحيون أنفسهم فجأة مطلع صيف 2005، أمام اختبار تمثيلي ديموقراطي، بعد 33 على اغترابهم عن هذه الممارسة. وفجأة أيضاً جاءت النتيجة لمصلحة شخص اسمه ميشال عون. فسرعان ما بادر الخاسرون إلى رفض النتيجة، والأهم أنهم حاولوا الالتفاف عليها وقلبها، عبر سلسلة من عمليات الاستقواء، إمّا بالدائرة الروحية المسيحية ضد الدائرة السياسية، وإمّا بالدوائر غير المسيحية، وخصوصاً الدائرة السنية المستجدة، وإمّا بالدائرة الخارجية من عواصم الغرب إلى العرب وما بينهما.
وبشرح أسهل، انتهت الانتخابات النيابية إلى أكثرية مسيحية يمثّلها عون، وأقلية مسيحية يمثّلها خصومه. وبدل أن يفرض المنطق الديموقراطي التنافسي البسيط نفسه، بحيث تقبل الأقلية قيادة الأكثرية وتنافسها، في مقابل حفظ الأكثرية لحقوق تلك وأولها الحق في التناوب، بادرت الأقلية المسيحية إلى الاستقواء بالأكثريات السنية والدرزية، وحتى الشيعية بداية، كما إلى الاحتماء ببكركي، وصولاً إلى تحريض الغرب على جماعتها نفسها. إنه الخطأ الأول الذي أسهم في بلوغ اللحظة، وهو الخطأ الذي حاول عون تصحيحه: تعالوا نسلّم بمنطق الديموقراطية التنافسية البسيطة داخل كل جماعة، وإلاّ فالثمن آتٍ ويدفعه الجميع.
أمّا «الهفوة» الثانية فلقد ارتكبت منذ صيف 2005 ضمن الدائرة اللبنانية، وعنوانها بكل بساطة نظام السنية السياسية الذي أقامته التركيبة الحريرية بعد الجلاء السوري، على غرار نظام المارونية السياسية الذي أقامته «التركيبة الدستورية» بعد الجلاء الفرنسي في الأربعينيات. وفي الحالتين، كان العطب الأكثر بنيوية، هو توهّم أكثرية جماعة ما، بالقدرة على تكوين أكثرية حسابية على مستوى الوطن، بالتحالف مع أقليات طوائف أخرى، لا مع أكثرياتها، فيما ثبت أن الديموقراطية اللبنانية الخاصة جداً، لا تحتمل استبعاد أكثرية طائفة واحدة لمصلحة أقليتها، فكيف بأكثر من طائفة. كما ثبت أن دعم العالم الخارجي كله أعجز من ملء فراغ مكون جماعي واحد من مكونات الميثاق اللبناني.
وما حاول عون أمس تقديمه حلاً تاريخياً لهذه «الخطيئة» واضح: الالتزام بمنطق التوافق الميثاقي بين أكثريات الطوائف، كتركيبة للحكم والسلطة في البلاد، في انتظار الدولة المدنية الكاملة. حتى ذاك تتآلف أقليات الجماعات في «المعارضة الوطنية»، في مقابل توافق أكثرياتها المقابلة ضمن «الموالاة». ويكون التنافس الديموقراطي في أن تصير كل أقلية أكثرية داخل جماعتها لتشارك في السلطة. فأي خروج عن هذه الديموقراطية الخاصة، غير الدولة المدنية، وقوع في المأزق الذي بلغته السنّية السياسية اليوم.
تبقى «الهفوة» الثالثة، تلك التي ارتكبها بعض الغرب، لجهة زوال علّة الوجود المسيحي في لبنان في زمن العولمة. فبين نموذج لبنان التعددي المنطلق لدمقرطة المحيط، ونموذج لبنان الإسلامي السني الغربي المصالح، والمنطلق لأمركة المحيط، بدا أن واشنطن اختارت بعد الجلاء السوري النموذج الثاني، متناسية أن النموذج الأول هو الخيار الوحيد المتاح أمامها لمعالجة تدريجية، لأزمتيها الأساسيتين في المنطقة: القضية الفلسطينية، والديموقراطية في العالم الإسلامي.
هفوة أساسية، حاول عون التصدي أمس لتحديها، بردّه إلى الغرب المسيحي كما إلى الشرق الإسلامي معاً، محمّلاً الطرفين المسؤولية عن إزهاق الخيار الوحيد المتاح أمامهما، للانتقال بزمن عولمتهما من صدام الحضارات إلى حوارها.