نقولا ناصيف
يبدو الرئيس ميشال عون عقبة في طريق الإجماع على انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. وبات انتخاب الأخير رهناً بسلفه الجنرال، وحده، كي يتحقق هذا الإجماع، أو يدخل الفراغ الدستوري في ما هو أدهى من شغور منصب رئاسة الجمهورية: جعل الجيش طرفاً في التجاذب السياسي وإخراجه من حياده، واستنزاف سمعته ودوره في حسابات سياسية. على أن المآخذ والانتقادات أصبحت تُوجّه إلى عون حصراً لتمسّكه بتحفظه المعلن عن استعجال انتخاب سليمان قبل إرساء تسوية سياسية. والذين اطّلعوا على جانب من الحوار الذي تبادله الجنرالان يوم الإثنين الفائت، نسبوا إلى عون قوله لزائره إنه يؤيد انتخابه رئيساً ولا لبس في هذا الموقف، بيد أنه يريد من الرئيس الجديد، بعد انتخابه، تسليحه بقوة الموقع الدستوري وتوازن قوى جديد. لم يطرح عون على سليمان مطالب محددة، وقال له إنه لا ينظر إليه كمشكلة، بل كحل، لأن المشكلة هي مع الطرف الآخر، وتحديداً مع الفريق الأكثر فاعلية في قوى 14 آذار الذي هو تيار المستقبل. كذلك ذكّر قائد الجيش بأنه كان أحد الأسماء المتداولة لديه كخيارات محتملة لانتخابات الرئاسة، وأوحى به عندما تقدّم بمبادرته في 22 تشرين الثاني المنصرم. وقرن عون موقفه المؤيد لانتخاب سليمان بتمسّكه بالحصول على الضمانات أولاً، وقبل الانتخاب، لئلا يتعذّر الحصول عليها لاحقاً.
وبحسب هؤلاء المطّلعين، فإن الإيجابية الأساسية التي خلص إليها اجتماع الجنرالين، كانت تفهّم أحدهما وجهة نظر الآخر: لا سليمان قادر على أن يعد، ولا عون يريد منه وعوداً بل ضمانات متكاملة من الفريق الآخر تتخطى الاتفاق على الحكومة الجديدة إلى سلة حكم.
هو الموقف نفسه تقريباً يعبّر عنه مسؤول بارز في حزب الله بقوله لا انتخابات رئاسية من دون سلّة حكم متكاملة. وعلى نقيض هذا الموقف نُسِب إلى رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري قوله إنه ليس في وسعه التفاوض على سلة مطالب لمرحلة ما بعد انتخاب رئيس جديد للجمهورية قبل انتخاب هذا الرئيس، وقبل تعيين رئيس جديد للحكومة وفق الآلية الدستورية لذلك.
وهكذا يدور طرفا النزاع في قوى 14 آذار والمعارضة في دائرة إصرار كل منهما على تحديد آلة الحكم الجديد قبل انتخاب الرئيس.
وفي واقع الأمر تتركز مشكلة السجال الدائر من حول سليمان ـــــ لا عليه ـــــ على المعطيات الآتية:
1 ـــــ انعدام كلّي للثقة بين الموالاة والمعارضة. بل إن كلاً منهما ينظر إلى موقف الآخر من تأييد انتخاب قائد الجيش بكثير من الريبة. تعتقد قوى 14 آذار أن المعارضة تتحفظ عن انتخاب سليمان ترجمة لموقف سوري لا يزال يرى أن الأوان لم يحن بعد للخروج من الفراغ الدستوري وانتخاب رئيس للجمهورية، وإن كان المرشح الوحيد للمنصب هو قائد الجيش الذي تطمئن دمشق إلى علاقتها به، وتثق بموقفه منها ومن طريقة إدارته الصراع السياسي في لبنان. بدورها المعارضة تجد في تأييد الغالبية انتخاب قائد الجيش، بعدما كانت رفضته قبل أشهر وشهّرت به وحضته وجنوده على ملازمة الثكن لا التدخّل في السياسة، إشارة واضحة إلى تحسّن ملموس قد يكون طرأ على علاقات دمشق بباريس وواشنطن، ومن ثم المجتمع الدولي، ولكن من غير أن يبلغ مرحلة الاتفاق.
بذلك يلتقي فريقا النزاع حول وجهة نظر غامضة بالنسبة إلى كل منهما، هي القطبة المخفية، الإقليمية والدولية، المحيطة بالبروز المفاجئ لاسم قائد الجيش مرشحاً وحيداً، وإعلان كل الأفرقاء تقريباً دعمهم غير المشروط لوصوله إلى المنصب، قبل أن تكبح هذا الدعم تفاصيل بدأت صغيرة ثم أضحت كبيرة، فجوهرية، فأداة تهديد بإسقاط ترشيح قائد الجيش، من غير أن يكون الأخير معنياً أو طرفاً في هذه العاصفة. وإذا بترشيح سليمان، كلائحة البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير، من عدّة شغل المواجهة بين أشباح، على غرار تجاذبهم على المرحلة السابقة لشغور رئاسة الجمهورية.
2 ــــ يدرك فريقا النزاع أن أياً منهما لن يحصل باكراً على مكاسب سياسية من قائد الجيش قبل انتخابه، إما لأن ليس في وسعه أن يعطي سلفاً، أو لأن ليس في وسعه أن يعطي ما يملكه سواه. وما تملكه كل من الموالاة والمعارضة حسيّ وخاضع للمقايضة: تملك قوى 14 آذار الأكثرية المطلقة في مجلس النواب وغالبية الثلثين في مجلس الوزراء ورئاسة الحكومة، أي أنها تمسك القرار من داخل السلطة. وتملك المعارضة استمرار الاعتصام وتحريك الشارع وحق الفيتو الذي يحول دون التئام مجلس النواب لانتخاب رئيس للجمهورية وسلاح حزب الله، أي أنها سلطة مستقلة في ذاتها من داخل السلطة أو إلى جانبها. والفريقان جرّبا التواطؤ على الحكم عندما اقتسماه معاً عام 2005، والعداء عندما انفصلا وفككا المؤسسات الدستورية وقادا رئاسة الجمهورية إلى الفراغ.
3 ــــ تبدو المفاوضات غير المباشرة بين قوى 14 آذار والمعارضة بمثابة استعادة للحلف الرباعي، ولكن بصيغة ثنائية يكون رئيس الجمهورية شاهداً عليها، ثم راعياً لإجراءات التزامها. تالياً تريد المعارضة اليوم أن تظهر بمظهر المفاوض الأكثر تمكناً والأقل إرباكاً وإحراجاً مما كانت عليه عند إرساء التحالف الرباعي ربيع 2005، لم تعد تحت وقع صدمتي اغتيال الرئيس رفيق الحريري وتوجيه الاتهام إلى دمشق ـــــ وضمناً إلى أفرقاء في المعارضة ـــــ بمسؤوليتها عن الجريمة بعد إرغامها على سحب جيشها واستخباراتها العسكرية من كل الأراضي اللبنانية. كذلك لم تعد قوى 14 آذار، بعد أشهر على إقرار المحكمة الدولية في مجلس الأمن، تحت وقع الاغتيال والانقلاب على المرحلة السياسية السورية ورجالاتها للإمساك بمقدرات السلطة اللبنانية. تبعاً لذلك، بعدما فك حزب الله الحصار المضروب عليه بسبب سلاحه في العامين المنصرمين، خرج هذا السلاح من سجال الاستحقاق الرئاسي كأحد الشروط الملازمة لمواصفات الرئيس المقبل للجمهورية. بل أخرجه على نحو قاطع رئيس اللقاء الديموقراطي النائب وليد جنبلاط والسفير الأميركي جيفري فيلتمان، تباعاً، إذ اختارا ألا يقرنا تنفيذه بطابع العجلة والإلحاح، ولا بتنفيذ قريب للقرارات الدولية، أضف التسليم بموقع الحزب في معادلة نصاب الثلثين. الأمر نفسه بالنسبة إلى دمشق بعدما نجحت في فك العزلة الدولية المحيطة بها، وباتت تتلقى إشارات أميركية وفرنسية، ودولية أخرى، جدية تطلب مساعدتها في إجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية. وبعد أن كان يقال لا مكان لدمشق في الاستحقاق الرئاسي الذي يجب إجراؤه بلا تدخل خارجي، سوري خصوصاً، أضحى قائد الجيش المرشح الوحيد للاستحقاق، كأحد أقرب الخيارات الموثوق بها لدى القيادة السورية لإعادة بناء العلاقات اللبنانية ـــــ السورية.
وبعدما وقع الفراغ الدستوري، لم تعد المعارضة تجد ما يلحّ عليها استعجال انتخاب رئيس جديد للجمهورية بمعزل عن تسوية سياسية جديدة، وقد باتت هي المفاوض الأصعب.