strong>غسان سعود
• عن الإرث السياسي ووجدان الطائفة وشبح عام 1982

يقول أهل عين التينة إنّ النائب سعد الحريري الذي يزورهم في الفترة الأخيرة هو غير سعد الذي زارهم سابقاً. ويختصر هؤلاء المقارنة بين الرجلين بالقول إنّ ذاك الحريري كان يشبه وليد جنبلاط، أما هذا فأقرب إلى أمين الجميّل في هدوئه ونضجه

تجهد الأحزاب والقوى المسيحية للقول إنها استشيرت قبل أخذ النائب سعد الحريري قرار ترشيح العماد ميشال سليمان، وإنّها وافقت عليه. ولجأ الكتائبيّون مثلاً في هذا السياق إلى رواية تفاصيل العلاقة المتينة بين الرئيس أمين الجميل والنائب سعد الحريري للقول إن الجميل يلعب اليوم الدور الذي سبق للنائب وليد جنبلاط أن لعبه قرابة سنتين، مستنداً بذلك إلى الرصيد العالي لنجله الشهيد بيار عند الحريري، وإلى تجربته التي تشبه في بدايتها تجربة الحريري، إضافة إلى اتصاف الجميّل بكثير من سمات الحريري الأب التي يحاول سيّد قريطم الحالي أن يجعلها جزءاً من سلوكه ومقاربته للملفات الشائكة.

تبادل الودّ

يستعيد المسؤولان الكتائبيان ميشال الخوري وساسين ساسين كيف وطّد الحريري والوزير الجميل علاقتهما الشخصية بطريقة استثنائية. فالاثنان، اللذان كانا يسهران معاً حتى مطلع الفجر معظم أيام الأسبوع، من الجيل نفسه، وقد عاشا طويلاً في أوروبا، وثمة تشابه كبير في تجربتهما الجامعية والاجتماعية.
وكان الحريري مهتماً، بحسب الخوري، بالاستفادة من «خبرة الجميّل السياديّة والاستقلالية»، إضافة إلى إعجابه بأسلوبه الخطابي وقدرته التنظيمية. وتطورت علاقتهما لاحقاً من سياسية إلى شخصية، فعائلية حيث نشأت صداقة أيضاً بين زوجتيهما. ورغم فارق السنّ، يتابع الخوري، شعر الحريري بعد استشهاد بيار بأن كثيراً من خصاله وأفكاره أخذها عن والده. وهكذا بدأ التقارب بين ابن الشهيد ووالد الشهيد، وسرعان ما تصدّر الجميّل المكانة الأولى (مكانة بيار) في دارة الحريري. ورغم البروتوكولات، يؤكد ساسين أن الجميل والحريري يتبادلان الاتصال أكثر من مرة يومياً لتداول الآراء قبل إعلان أي موقف.
ويقول متابعون إن الرئيس الأعلى لحزب الكتائب حاول إثر استشهاد نجله أن يعرّف رئيس كتلة «المستقبل» أكثر إلى ابنه سامي، فتلاقى الشابّان أكثر من مرّة، لكنّ «الكيمياء» لم تجرِ بينهما. وشعر «العنيد» بأن الحريري يلحظ الفارق بين سامي وبيار، ولا يستسيغ مقاربة الأول للقضايا الوطنية ونظرته لموقع المسلمين اللبنانيين تاريخياً وإيمانه بالفدرالية، وهو ما دفعه إلى أن يكون هو بنفسه «الصديق الماروني القوي الذي يحتاج له زعيم الطائفة السنّية بقربه». ولعبت «ثقة الحريري وشعوره بحنان الجميل دوراً في تعزيز هذه العلاقة التي نضجت يوماً بعد يوم حتى صار الجميل نفسه «يرى في الحريري وجهاً مشرقاً من وجوه بيار».

الإرث الثمين

يتوقّّف الكتائبيّون والمستقبليّون عند مسيرة الرئيس الجميل، التي يرى الحريري، وفق مقربين منه، في انطلاقتها قبل عقدين ونصف شبهاً كبيراً بانطلاقته. ويقول أحد نواب تيار المستقبل إنّ ابن رفيق الحريري عرف بعد سنتين أن والده ليس كمال جنبلاط وأن موقعه في التركيبة الداخلية بحكم تزعمه الطائفة السنية أكبر بكثير من موقع زعيم الدروز. وتلمّس تحوّل الحريري الأب في الوجدان السنّي لما يشبه الرئيس بشير الجميّل في الوجدان المسيحي. كذلك فهم أن سير الأحداث والانقسام السياسي في البلد وانكفاء القوى الخارجية باتجاه سريّة التحرّك، انما تجعل جميعها الصورة أقرب إلى عام 1982 منها إلى عام 1976. ويقول النائب الشمالي إن سيّد قريطم شعر، رغم التحفظات الكثيرة، بأن موقعه يحتم عليه محاولة لعب دور الرئيس الجميل غداة انتخابه رئيساً للجمهورية، وسعيه للمصالحة رغم أن دم شقيقه كان لا يزال حامياً، وكان البعض يهتف فرحاً باغتياله. من هنا يؤكد النائب أن الحريري مهتمّ بالاستفادة من تجربة الجميل التي يراها أهم من تجارب أخرى انتهت بتقاتل اللبنانيين، وخسارة قيمة زعماء أساء ورثتهم لإرثهم.
وفي هذا السياق، يرى أحد كبار الكتائبيين أن الحريري، الآتي إلى السياسة من عالم التجارة، أثبت قدرته على التحرك بخفة وسط الحمم البركانية التي اجتاحت الحياة السياسية اللبنانية خلال السنتين الماضيتين. ونجح في الحفاظ على كثير من إرث والده. لكنه يشعر في قرارة نفسه بأنه لا يملأ إلا جزءاً صغيراً جداً من كرسي الحريري الشهيد، سواء حين يجلس مقابل الرئيس الأميركي جورج بوش في البيت الأبيض أو حين يقضي ساعات «مستمعاً» للرئيس نبيه بري في عين التينة. الأمر الذي يزيد قناعته بالحاجة إلى حنكة الجميل الذي عرف قبل ربع قرن كيف يوضح جوانب كثيرة من تجربة بشير وحزب الكتائب، وحاول وصل ما انقطع ليحافظ على مقاربة بيار الجميل الجد للعلاقة بين اللبنانيين وقيم الجمهورية. ويضاف إلى هذه جميعها، شعور الحريري، كما فاتح مقربين منه أكثر من مرة، بأن الجميل هو الأقرب إلى والده وسط الطبقة السياسية في مقاربته لهموم الوطن والخلافات بين السياسيين. وهو يقدر حنكة الرئيس الأعلى لحزب الكتائب في اختيار الكلمات مهما تكن الضغوط. ويكتفي أحد نواب تيار المستقبل البيروتيين بالإشارة إلى إنصات الحريري اللافت للجميل كلما طلب الكلام في اجتماعات 14 آذار، وطلبه من المثرثرين يميناً ويساراً السكوت لسماع «وجهة نظر الشيخ»، كما يسميه الحريري.
يضاف إلى هذه كلها ارتياح الحريري إلى علاقة الجميّل بوالده، خلافاً لما كانت عليه هذه العلاقة مع معظم مسيحيي 14 آذار. علماً أن كثيراً من ساسة الموارنة لا ينظرون بعين الرضا إلى نشر تفاصيل العلاقة بين الجميل والحريري لخشيتهم من اكتشاف قواعدهم هشاشة علاقتهم بأصحاب القرار في قوى 14 آذار.

فيلم
أميركي


ليست الظروف الداخلية وحدها ما يفرض أوجه الشبه بين تجربة الشيخين الحريري والجميّل. فالدعم الأميركي لتجربة الحكم الجديدة بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري يذكّر بالدعم الذي تلقّاه الرئيس الجميّل بعد انتخابه رئيساً. وهو دعم موجّه في كلتا الحالتين ضدّ دمشق وتدخّلها في السياسة اللبنانية. ولا يخفى الشبه بين خطابات سعد الحريري العدائية تجاه النظام السوري المتّهم بالضلوع باغتيال والده، والخطابات التي كان الرئيس الجميّل يهدّد بها دمشق من واشنطن.
في ظلّ التقارب اليوم بين الحريري الابن والجميّل الأب، لا بدّ من أن يكون الأخير قد همس في أذن الأوّل أنّ ما نشهده اليوم هو فيلم سبق للرئيس السابق أن شاهده، وأنْ دفع ثمن ذلك غالياً.
ربما كان الرئيس الجميل يحاول اليوم ألّا يدفع والنائب الحريري الثمن نفسه مرة أخرى.