نقولا ناصيف
القاسم المشترك الوحيد بين قوى 14 آذار والمعارضة، اليوم، هو الإتفاق على انتخاب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. أما الخلاف فهو على كل ما عدا ذلك: رئاسة الحكومة، وتأليف الحكومة الجديدة وتقاسم الحصص فيها، وبرنامج حكم المرحلة المقبلة. ولأن السلسلة واحدة، بات الإنتخاب والإتفاق متلازمين كي يطمئن كل من طرفي النزاع إلى الضمانات التي يفترض أن يحصل عليها من الآخر حتى يساعد على الخروج من مأزق شغور رئاسة الجمهورية منذ 24 تشرين الثاني الفائت.
وشأن الكثير المطلوب من الرئيس الجديد للجمهورية، كذلك حال الرئيس المقبل للحكومة، وخصوصاً في ظلّ بندين رئيسيين ينتظران أولى حكومات العهد الجديد هما العلاقات اللبنانية ـ السورية وقانون الإنتخاب، في المرحلة الفاصلة عن موعد الإنتخابات النيابية ربيع 2009. بذلك لن تتعدّى ولاية الحكومة الأولى هذا الإستحقاق.
يفضي ذلك إلى طرح ملاحظات:
أولاها، أن رئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري لم يقل بعد هل يريد ترؤس أولى حكومات عهد سليمان، في ضوء استمرار سيطرته على الغالبية النيابية التي تسمّي رئيس الحكومة المكلف. وبالتأكيد لا تكمن المشكلة هنا، فحسب، في أن الحريري يجد نفسه مستعداً لتبوؤ المنصب أم لا، بل في مدى ملاءمة الظروف الحالية لمباشرة مرحلة سياسية مهمة هي إخراجه الزعامة السنّية من ثنائية التجاذب بين السرايا وقريطم التي تتخبط فيها منذ تموز 2005. ثنائية كهذه أوجبتها المرحلة الإستثنائية السابقة التي تلت انتخابات 2005، وحتمت التعايش مع السنتين المتبقيتين من عهد الرئيس السابق إميل لحود وإدارة الحكم بمعزل عنه، من غير أن يكون الحريري شريكاً في السلطة إلى جانب رئيس للجمهورية يعتقد أنه معني، سياسياً، باغتيال والده الرئيس الراحل رفيق الحريري. تبعاً لذلك، لم يكن صعباً تلمس الغموض والإلتباس، وأحياناً الفتور، في علاقة الحريري الإبن برئيس الحكومة فؤاد السنيورة. بل كانت مشكلتهما واحدة: وجود السنيورة في السرايا لم يجعله زعيماً للسنّة الذين يمثلهم في المنصب، وهو يدرك أيضاً أن القرار الفعلي للغالبية الحاكمة في قريطم. في المقابل أشعر ذلك الحريري بعدم اكتمال زعامته السنّية التي ظلّ ينقصها تطابق قريطم والسرايا. على نحو كهذا سلك والده الراحل، وكانت حال السرايا مع الزعماء السنّة رؤساء الحكومة المتعاقبين.
ومع أن السنيورة أوتي في السنتين المنصرمتين من عمر حكومته من الدعم الدولي والعربي ما لم يؤتَ رئيس حكومة آخر في تاريخ لبنان بما في ذلك الرئيسان رياض الصلح ورفيق الحريري، فإن المرحلة المقبلة ستُفقد رئيس الحكومة الكثير من وهج وأهمية يتخطيان الدور والحجم، مفتعلين فرضهما الجهد الدولي، الأميركي والفرنسي خصوصاً، لعزل لحود وحصر الشرعية الدستورية برئيس حكومة حمل صفة رئيسين في وقت واحد. وبمثل ما أوتي به أعطاه السنيورة أيضاً للمجتمع الدولي. وهكذا لم يشهد لبنان، على مرّ تاريخه أيضاً، رئيس حكومة لا يكتفي بمناوأة خصومه السياسيين فحسب، بل كذلك يضع نفسه في خانة العداء لهؤلاء وسوريا، ويحتكم إلى الخارج أكثر منه إلى التسوية الداخلية.
والأصح أن كل الإتصالات واللقاءات والجهود، وأدوار السفراء النافذين ومهماتهم، في المرحلة المقبلة ستمر بالرئيس الجديد للجمهورية، إلا ما خلا ما قد يشترك فيه رئيس الحكومة مع رئيس الجمهورية بموافقة الأخير.
ثانيتها، أن وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة يصطدم بادىء بدء بما ورثه من السنيورة وبما أورث نفسه إياه، وهو الخلاف السياسي مع الطائفة الشيعة. فضرورات التفاوض التي أوجبت في الأشهر المنصرمة اجتماعات الحريري برئيس المجلس نبيه بري، لم تبدد عناصر انعدام الثقة بينهما واتهام كل منهما الآخر بمرجعية خارجية تجتذبه إلى مصالحها، وسعيه إلى عرقلة أي تفاهم محتمل. مما ضاعف من تعذّر اتفاقهما على كل ما خاضا فيه في السنتين الأخيرتين: من المحكمة الدولية في اغتيال الرئيس الراحل إلى تقويم حرب تموز 2006 ونتائجها إلى حكومة الوحدة الوطنية إلى اعتصام المعارضة إلى الإستحقاق الرئاسي. وليست الحال أحسن في علاقة الحريري بحزب الله، وكان ردّد مراراً أنه طلب الإجتماع بالأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، فقوبل طلبه برفض استقباله ترجمة للقطيعة الواقعة بين الطرفين. أضف أن الحريري استفزّ حزب الله في الأسابيع الأخيرة بقوله إنه يرفض تأييد انتخاب العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية بسبب تحالفه مع حزب الله، ناهيك بالحملات المستمرة لاعلام تيار المستقبل على الحزب وتشهيره به. بذلك يصطدم وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة بعقبة علاقته بالطائفة الشيعية وزعيميها القويين بري ونصرالله. وإذ لم يعلن بري بعد رفضه وصول الحريري إلى رئاسة الحكومة على غرار تشدّده في رفض عودة السنيورة إلى هذا المنصب، يصرّ الحزب وحليفه عون على رفض ترئيس الحريري أولى حكومات العهد الجديد، ويطالبان برئيس حكومة محايد وتوافقي يلاقي انتخاب قائد الجيش رئيساً محايداً وتوافقياً للجمهورية.
تبعاً لذلك يبدو الحريري في علاقته بالطائفة الشيعية يبدأ حيث انتهى السنيورة، لا حيث انتهى والده الراحل في حواره المتقدّم مع حزب الله.
ثالثتها، أن الملف الأكثر إلحاحاً في المرحلة الأولى هو العلاقات اللبنانية ـ السورية ومعاودة الحوار الرسمي بين البلدين، في موازاة حوار يجريه المجتمع الدولي، وخصوصاً واشنطن وباريس، مع دمشق مباشرة أو عبر تبادل إشارات ودية. وفي واقع الأمر يمثل الإتفاق على انتخاب قائد الجيش رئيساً جانباً رئيسياً من تلك الإشارات بغية إعادة الإستقرار وانتظام الحكم في لبنان، في مقابل تفهّم المجتمع الدولي المصالح السياسية لدمشق في هذا البلد. وسواء سلّم الحريري، رئيساً للحكومة، برغبته في هذا الحوار وفي توقيته خصوصاً في انتظار إحراز المحكمة الدولية تقدّماً ما في آلية عملها أم لا، سيكون الحوار مع دمشق في رأس سلّم أولويات سليمان بغية وضع حدّ للعلاقات المتدهورة بين البلدين توصّلاً إلى تطبيع الحدّ الأدنى.