رانية المصري *
تلتهم الأسماك الكبيرة تلك الأصغر منها في البحر. هذه ليست قاعدة تحكم عالم السمك فقط، بل تنسحب على نوعية العلاقة السائدة بين مختلف القوى الإقتصادية في عالم التجارة. فالشركات المتعددة الجنسية، التي تستفيد من الإعفاءات الجمركية ومن الإعانات المالية التي تقدمها لها حكوماتها، تلعب دور الأسماك الكبيرة في السوق.
أما الأسماك الصغيرة، فهم صغار الصيادين، التنوّع البيولوجي في المحيطات والبحار، إقتصاديات البلدان النامية والأمن الغذائي لملايين البشر. القوانين ذاتها التي دمّرت المزارع وشبكات المياه في العالم تؤدي اليوم إلى نشر الخراب في البحار والمحيطات.
فالمخزون العالمي للأسماك يتناقص بشكل متسارع، ما دعا علماء الأحياء للتحذير من نفاد الثمار البحرية في غضون 40 عاماً تقريباً، اذا استمر الإفراط في الصيد بمعدلاته الحالية.
وأكد الباحثون أن 90 في المئة من أنواع الأسماك التي نستهلكها اليوم قد تنقرض بعد 40 عاماً. ذلك أن شركات الصيد الكبرى تلجأ لأساليب غير مستدامة في الصيد بهدف تلبية الطلب المتعاظم على السمك، وخصوصاً أسماك التونا والقريدس والسلمون والسردين. هذه الأساليب لا تكتفي باستنفاد الأجناس المستهدفة بل تقتل أيضاً طيور البحر والسلاحف والمخلوقات البحرية الأخرى كما تدمر البيئة البحرية.
مع تكرار ما يسمى بـ «الضرر المتلازم»، يتم رمي ربع غلة الصيد العالمية من الأسماك إذ تتضح ضآلة قيمتها مقابل الأنواع الأخرى. فمخازن بواخر الصيد تسع كمية معينة من الغلة تفضّل الشركة ملأها بالأسماك الأغلى لتضاعف أرباحها. بالنسبة للقريدس، قد يتم رمي 20 كيلوغراماً مقابل الإحتفاظ بكيلوغرام واحد. وفي الخليج العربي، يرمى ربع ما يتم اصطياده من القريدس، وتؤذي أساليب صيده السلاحف البحرية. وبشكل عام، تؤدي أساليب الصيد المعتمدة عالمياً إلى نفوق ملايين المخلوقات البحرية سنوياً على سبيل «الضرر المتلازم»، من ضمنها 300 ألف حوت صغير ودلفين، وأكثر من 250 ألف سلحفاة بحرية و 100 ألف من أسماك القرش، في البحر الأبيض المتوسط فقط.
يؤدي استنفاد الثروة البحرية هذا إلى إيقاع الضرر البالغ بمصدر رزق ملايين العائلات الفقيرة، إذ يعيش 50 مليون صياد من إجمالي الصيادين الذي يبلغ عددهم 51 مليوناً في البلدان النامية، ويعتاش 34 مليون شخص على الأقل ممن يكسبون أقل من دولار واحد في اليوم، من الصيد. وقد يصبح الصيد مستحيلاً بالنسبة لهؤلاء، إذ تؤدي أساليب الصيد التي تستخدمها الشركات الكبيرة إلى «تصحّر» قاع البحر وتدمير مراعي الأسماك المحاذية للسواحل.
يشرح سعيد، وهو صياد مصري يمارس هذه المهنة منذ بلغ السابعة من عمره، الوضع، قائلاً: «من يعاني اليوم يعاني كثيراً. في المقابل، من يتمتع بوضع مريح، مرتاح جداً...».
يختصر سعيد، بجملته المبسّطة، الواقع الرأسمالي القاسي الذي يؤدي إلى انتزاع الثروات من أفواه الفقراء وتوزيعها على الأغنياء.
ما هو تأثير ذلك على الصياد اللبناني؟
المشكلة في الحالة اللبنانية هي غياب أو عدم دقة المعلومات. فمثلاً، ليست لدى تعاونيات ونقابات الصيادين في شمال لبنان أي فكرة عن إنتاجها السنوي وعن قيمته. إلا أن بحثاً ميدانياً موسعاً أجراه معهد البيئة في جامعة البلمند أظهر أن «المسمكات اللبنانية ما زالت تقليدية ولا تشكّل ضغطاً كبيراً على السواحل الشمالية، إلا في الأماكن حيث تستخدم المتفجرات والسموم وشباك لا تطابق المواصفات القانونية. ويحتوي قطاع الصيد في شمال لبنان على ما بين 1000 و1400 قارب، ويعمل فيه أكثر من 3300 صياد، وتبلغ كمية الأسماك المصطادة حوالي 5800 طن قدرت قيمتها بــ 27.7 مليون دولار عام 2005».
ورغم افتقارنا إلى معلومات وافية عن الحالة في لبنان، إلا أن المعلومات المتوفرة عالمياً تكفي لطرح توقعات واضحة حول مستقبل الصيادين في البحر الأبيض المتوسط في حال استمرت حالة الإفراط في الصيد السائدة حالياً.
فتحرير تجارة الأسماك ومنتجات الأسماك الذي تسوّق له منظمة التجارة العالمية سيعود بالفائدة الإقتصادية فقط على عدد صغير من البلدان المتقدمة التي تصدّر السمك، ولن تستفيد البلدان الأخرى. ومن المرجح أن تستنفد الدول المتقدمة، أو تتيح استنفاد، ما تبقّى من الثروة البحرية، وبالتالي، أن تفاقم من خسارة التنوع البيولوجي والجيني وأن تزيد من تآكل أهم عناصر النظام البيئي البحري ومن تراجع إنتاجيته.
بالنسبة للمستهلك في البلدان النامية، ستزيد أسعار السمك مع تحوير جهود تطوير قطاع الصيد الوطني نحو دعم صيد الأسماك المطلوبة للتصدير. أما عالمياً، فإن استراتيجيات التحرير ستزيد الضغوط من ناحية سحب الغذاء من أطباق الفقراء إلى جيوب الأغنياء...
* أستاذة في قسم العلوم البيئية في «البلمند»