جوانّا عازار
عمرها 100 مليون سنة، ولبنان هو موطنها الوحيد في الشرق الأوسط. إنها الأسماك والقشريّات والنباتات المتحجّرة التي توجد في بلدات حاقل، حجولا، النمّورة وساحل علما. أسماك توفيت بسبب التغيرات الجيولوجية وحفظها الصخر الكلسي لتكون شاهداً
على تطور بعض أنواع الحيوانات


منذ ملايين السنين كانت مياه البحر تغطي كلّ مساحة سطح الارض إذ لم تكن الجبال والوديان تكونت بعد. وكما هي الحال اليوم، كانت تلك المياه المالحة تعجّ بالحياة من أسماك على أشكالها وأنواعها وحشرات وأعشاب... عالم حي مكتمل دام لملايين السنين إلى أن بدأت التغيرات المناخية، ومعها بدأ موت الكائنات ومن ثم تحجرها.
يشرح بيار أبي سعد أسباب هذه الظاهرة فيقول "إن تساقط كميّات كبيرة من المياه العذبة على الأرض أدى إلى نمو حيوانات ونباتات مجهريّة تدعى عوالق على وجه مياه البحر. وكانت هذه العوالق تستهلك الأوكسيجين الموجود في المياه وتفرز سموماً تؤدّي إلى موت الكائنات الحيّة البحرية من أسماك وقشريات. وكانت هذه الحيوانات الميتة تطفو على وجه المياه ثمّ تنحدر إلى قاع البحر بعد أن تتسرّب منها الغازات لتبدأ عملية تحجرها الذي يتطلب أن تغطّي الرواسب السمكة بسرعة تحول دون تفكّكها واهترائها. وتندمج هذه الترسّبات بفعل تراكم وزنها وتصبح صخرا كلسياً صلباً تبقى السمكة محفوظة داخله. وبحسب سرعة الطمر ونوعيّة الترسّبات يمكن قياس مستوى الحفظ الذي يعدّ في لبنان الأفضل بين الأسماك المتحجّرة في العالم".
وقد حازت هذه المتحجّرات على اهتمام العلماء العالميّين وذكرت في الصحف والمجلات العلميّة الأجنبيّة لما تمثّله من ذاكرة للزمن ومن شاهد على تاريخ الحياة وعلى تطوّرها. فضلا عن تنوّع الأنواع الموجودة في لبنان من هذه الأسماك وهي تشكّل نحو 15 في المئة من الأنواع الموجودة في العالم: القريدس والكالامار المتحجّرة والتي تحفظ بطريقة فريدة لا يعرفها العالم ومن الأسماك السردين، القرش، بقرة البحر، الأسماك الطائرة،... فضلاً عن سمكة الكلكنتا Coelacanthe التي تعتبر أقدم سمكة تعيش حتّى اليوم، فقد وجدت لها متحجرات عمرها 350 مليون سنة ويعتبرها بعض العلماء نقطة التحوّل بين الحياة البحريّة والحياة البريّة.
وما يضيف الى أهمية المتحجرات اللبنانية هي طريقة تحجّرها السريع بين طبقتين كلسيتين ما يسهلّ استخراجها بطريقة علميّة تسمح بدراستها بشكل دقيق. وعن طريقة استخراجها يقول أبي سعد انّ الوسائل المستخدمة لكسر الحجر الكلسي المؤلّف من طبقات هي الإزميل والمطرقة والمعول والرفش.
بيار أبي سعد هو ابن العائلة التي تعمل منذ ثلاثة أجيال على التنقيب على المتحجّرات، ترميمها، دراستها والعناية بها من خلال مؤسّسة خاصّة أسسّتها العائلة سنة تحت اسم Memoire du temps "ذاكرة الزمن". حكاية المؤسّسة بدأت مع جدّ بيار ويدعى يوسف أبي سعد الذي وجد أيّام الانتداب الفرنسي، وبالصدفة، سمكة متحجّرة فدأب منذ ذلك الوقت على البحث يوميّا عن الأسماك من خلال اجتيازه للجبال المجاورة لبلدته الأمّ اهمج وفي جعبته بعض المعدّات البدائيّة والضروريّة في عمله.
بدوره ورث الوالد ميخايل هذا الشغف عن والده من خلال جمع هذه المتحجّرات من دون العمل على إيجاد تفسيرات ودراسات علميّة عنها. فما كان من أبنائه الأربعة إلا أن اشتروا قطعة من الأرض فيها مواقع عدّة للأسماك المتحجّرة، وأضحى تنقيب الأبناء عن الأسماك المتحجّرة عمل إبداعيّ هدفه تبادل المعرفة. وقام الأبناء بأبحاث عن الأسماك المتحجّرة إضافة إلى الاتّصال بجامعات عدةومراسلتها فضلاً عن التواصل مع متاحف كبيرة واختصاصييّن ذوي سمعة عالميّة. وهذا ما عمّق معرفة الأبناء بهذا المجال، حتّى أنّ اثنين منهما أكملا دراستهما وتخصّصا في المتحجرات. ويقول أبي سعد "انّ التحدي في هذا الاختصاص يكمن في أن نحو 80 في المئة من المتحجرات المكتشفة تعود لأسماك انقرضت مع الوقت ما يجعل عملية تحديد هويتها ونوعها أمراً صعباً، هذا بالاضافة الى أنواع الاسماك الاخرى غير المدروسة والتي تبقى بالتالي غير محدّدة». ويشرح أبي صعب صعوبة الامر بقوله إنه «في صالة العرض الخاصة بالعائلة في مدينة جبيل هناك نحو 400 نوع من الأسماك المتحجّرة المدروسة و400 نوع آخر غير مدروس وغير محدّد».
والجدير بالذكر أن ما بدأته عائلة أبي سعد منذ عقود أصبح اليوم مصدر رزق أساسي لبعض من أبناء قرية حاقل مثلاً. فأبناء القرية الذين يملكون أراضي زراعية تحوي في باطنها متحجرات توقفوا عن الزراعة وأصبحوا محترفي «تنقيب». حتى أن شكل القرية اختلف مع بداية هذا الاحتراف، فبعض من منازلها تحول الى «متاحف» متحجرات مصمم لاستقبال الزائرين وإطلاعهم على أنواع الاسماك المكتشفة. وهناك أيضاً المقالع المخصصة للزوّار خصوصاً الأطفال منهم. فأصحاب الأرض قد بدأوا هذه التجربة التربوية الحسية بحيث أنهم يتوجهون الى المقلع مع الاطفال وطلاب المدارس ويرشدونهم الى طرق البحث عن المتحجرات ويدعونهم يستخرجونها بأنفسهم. وهذا كله يساعد على «ترويج» فكرة المتحجرات أكثر فأكثر على أمل أن تحلّ العقبة الادارية بالنسبة الى تصنيفها. فعملياً تقع المتحجرات تحت إدارة المديرية العامة للآثار مع العلم بأنها ليست آثاراً بالمعنى الحرفي للكلمة لانها ليست من صنع البشر بل من مخلفات الطبيعة. فهل يجوز إذاً أن يلحق ملفها بوزارة الزراعة؟ ولكن ما القاسم المشترك بينها وبين المزروعات؟ تساؤل يدعو إلى طلب بتصنيف علمي محدد لهذه المتحجرات يكون الاساس في إصدار قواعد عمل وقوانين خاصة بها. هذا ما يزال عالقاً منذ سنين وما يشكل عائقاً أمام "إطلالة" أكبر للبنان على الصعيد العلمي العالمي في هذا الإطار.
وكانت الدولة اللبنانية قد أعارت موضوع المتحجرات في العقد الماضي بعض الاهتمام، إذ أسست المديرية العامة للآثار متحفاً للمتحجرات وهو فريد من نوعه في لبنان داخل أحد أزقة سوق جبيل القديم. وما يميّز هذا المتحف الصغير حجماً (فالقطع معروضة في صالة عرض واحدة) هو التبسيط العلمي لإحدى الظواهر التي قد يصعب فهمها. فالأسماك المتحجّرة (من لبنان والبرازيل ودول أخرى) معروضة بشكل يسمح للزائر بفهم طريقة تحجر هذه الكائنات أولاً، ومن ثم فهم تطور أشكالها وأحجامها وصلتها بالحيوانات المعروفة اليوم. فالمتحجرات معروضة على مستوى العين وتعلوها الشروحات التفصيلية المزودة بالرسوم التي تسهل الشرح. ولكن الطريف في زيارة هذا المتحف هو صعوبة "الاقتناع" بعمر القطع المعروضة فعلياً. فحديثة العهد من بينها عمرها 40 مليون سنة! ولا أحد يرغب بأن يرى صغر حجمه نسبة إلى عمر الارض.



المتحجرات تاريخياً

ذكرت المتحجّرات للمرّة الأولى في التاريخ في القرن الرابع الميلادي مع أسقف فلسطين أوزيب دوسيزاري الذي شاهد أسماكاً محفوظة على الصخور في أعالي جبال لبنان، فاعتبرها شاهداً على طوفان نوح المذكور في كلّ الكتب السماوية.
وفي القرن الثالث عشر ورد ذكر هذه المتحجرات في مذكّرات دوجفينيل، وهو مرافق الملك لويس التاسع خلال الحملات الصليبيّة.
وكان دو جوفينيل قد أتى على ذكرها بعد أن أهديت الى الملك سمكة متحجّرة أثناء وجوده في صيدا، فأعجبته كثيراً.
ومن بعدها غرقت المتحجرات في النسيان حتى تاريخ "الثورة العلمية" في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر والتي اقترنت بمحاولة تحديد علمي لتطور الحياة على الأرض، فتوالت البعثات الأجنبيّة من فرنسيّة وألمانيّة وايطاليّة وانكليزيّة وغيرها للتنقيب عن الأسماك المتحجّرة.
وفي لبنان يعود تاريخ هذه الأسماك إلى تاريخ جبال لبنان التي تكونت منذ 40 مليون سنة نتيجة تحركات باطن
الأرض.
وعندما كان يتراجع مستوى مياه البحر، كانت المتحجرات تبقى في الجبال على علو قد يصل إلى 1100 متر عن سطح البحر