strong>نادر فوز
•صراع «الميليشيا» و«المؤسّسة» وجراح «حرب الإلغاء» التي لم تندمل
نشرت «الأخبار» نهار الاثنين الماضي في عددها 394، مقالة للزميل غسان سعود بعنوان «استياء عسكري من زيارة جعجع إلى اليرزة»، فانهالت الاتّصالات على «الأخبار» من أشخاص وجدوا أنفسهم معنيّين مباشرةً بهذه القضية. فتمّ اللقاء بهم، وتسجيل هذه الشهادات

تجلس أم مارون على مقعدها الاعتيادي، بالقرب من صورة ابنها الأصغر، مرتديةً ثيابها السوداء حتى بعد مرور ما يقارب 18 عاماً على استشهاد ابنها. في الصورة، يبدو جورج، شاب ذو عينين ملوّنتين ووجه مشرق، ببزّة عسكرية خالية من النجوم والأشرطة. مضت كل هذه السنين و«الحرقة لا تزال في القلب»، تقول أم مارون. فـ«من اعتدى على كل هؤلاء الشباب ومن نكّل بجثثهم لم يحاكم»، أو «حصل على عفو خاص».
سقط جورج خلال المعارك التي دارت بين الجيش اللبناني والقوات اللبنانية في أوائل شهر آذار في منطقة القليعات. «استشهد ابني مؤمناً بأنه يدافع عن المؤسسة العسكرية بوجه الميليشيات من أجل توحيد لبنان»، فالجيش كان ولا يزال يمثّل الشرعية العسكرية الوحيدة، بحسب أم الشهيد، وخصوصاً بعد معارك نهر البارد.
تكنّ أم مارون للبزّة العسكرية كل الاحترام، إلا أنّ لقاءً في الفترة الأخيرة أثار غيرتها وقلقها على هذا اللباس العسكري «الشريف». فقد هالها استقبال العماد ميشال سليمان لقائد القوات اللبنانية سمير جعجع: «كيف يمكن قائد أن يستقبل من قتل وفظّع بأبناء هذه المؤسسة؟». لا تطلب أم مارون شيئاً سوى الاعتذار عن الجرائم المروّعة التي ارتكبت بحقّ العسكريّين، فالأطراف الميليشياوية لم تعاقب كما يجب، ومن حوكم «لم تكن الأحكام في حقه على مستوى الجرائم التي ارتكبها».
تعلن أم مارون ولاءها الكامل للجيش وقائده، لكنها ترى اللقاء بـ«ما يسمّى الحكيم دعسة ناقصة».

الدماء لا تصبح ماء

في أحد شوارع قرنة شهوان، يستضيفنا المعاون جان، وهو اسم مستعار لأحد العسكريين في الكتيبة 82 بإمرة الرائد جورج اسطنبولي التابعة للّواء الثامن في الجيش اللبناني بقيادة العميد سليم كلّاس بين عامي 1989 و1990. يتحدث جان بإسهاب عن العمليات التي نفّذها الجيش في منطقة عمشيت والهجومات المضادة التي قامت بها عناصر القوات اللبنانية، ويتحدث بشوق عن التضحيات التي بذلها العسكريون في هذه المعارك. وتبقى الأيام الأولى من شهر شباط عام 1989 (من الثالث إلى السادس من شباط) محفورة «لحظة بلحظة» في ذاكرة جان، بعد أن وقع عناصر هذه الكتيبة أسرى بأيدي «القوات». وكانت ثكنة الجيش قد سقطت بعد دخول «الميليشياويّين» بآليات اللواء السابع، فوقعأبناء «الثامن» في الكمين وتم أسرهم بعد فرارهم في الوادي ما بين عمشيت وغرفين، وأطلقت عبر مكبّرات الصوت عبارة «سلّموا تسلموا».
قبل تحويل الأسرى إلى مدرسة رحّال في عمشيت، وهي ثكنة عسكرية، مورست عليهم أبشع أنواع التعذيب النفسي ابتداءً من التنكيل بالجرحى حتى الاستعدادات المتتالية لـ«تصفيتهم»، ليعيدهم القواتيون بعد ذلك إلى داخل المبنى حيث احتجزوا. استطاع جان الهرب من الأسر بعد أن استعان ببنطال «قواتي»، فلجأ إلى مقبرة مجاورة للمدرسة، إلا أنه رأى عملية تصفية «أبناء كتيبته». فشاهد الرصاص المتفجّر يُطلَق على العسكريين وتقطيع جثثهم بالفؤوس واقتطاع أعضائهم والعبث بها.
بعد كل هذه المشاهد الفظيعة، لا يمكن أن ينسى جان ما فعلته تلك الميليشيا، كذلك فإنّ «الدماء لا تصبح ماء»، ولا يمكن أن تمحى «كل الخلافات بين الجيش والقوات» بجلسة استقبال لقائد الميليشيا السابق في اليرزة. يرى جان أنه ومعظم العسكريين الذين دافعوا عن المؤسسة العسكرية بوجه الميليشيات بهدف توحيد الوطن، ليس لهم إلا حبهم للبنان وشرفهم، و«قد تمّ المساس بهذا الشرف فيما المجرمون الحقيقيون أحرار في لبنان».

ردّ اعتبار

أحد العمداء المتقاعدين الذين عايشوا تلك المرحلة وشاركوا فيها بفاعلية، يطالب بأكثر من اعتذار. ويشير العميد الذي خدم في أحد الألوية المتمركزة في المتن وكسروان، إلى أنّ قائد القوات اللبنانية لم يحاكم بتهمة التعدّي على أمن الدولة، رغم أنّ القوات اللبنانية هي «الميليشيا الوحيدة التي واجهت الجيش علناً وصراحةً». ورأى أنّ وجود الرئيس أمين الجميّل هو ما سمح بهذه الزيارة، فـ«جعجع لا يزال حتى الساعة يستغلّ الأخير لأهدافه الخاصة». إلا أنّ هذه الفرضية سقطت في اليوم التالي بعد زيارة سريّة قام بها العماد سليمان لمعراب كشف عنها سيّد هذه الدار. ووجود جعجع في اليرزة، بحسب العميد، ليس إلا ردّ اعتبار على 11 عاماً أمضاها فيها، «فجلس مبتسماً معتبراً عودته جزءاً من التسوية». أخطأ العماد سليمان بهذا اللقاء، «فما كان عليه استقباله في اليرزة، ولا بالبزّة العسكرية». كان بإمكانه لقاؤه في مكتب وزير الدفاع أو منزله وبلباس مدني، «طالما أنهما تباحثا في مسألة سياسية وانتخابية».
استنكار آخر أطلقه شقيق لشهيدين سقطا في مواجهات مع القوات اللبنانية. بدا الاستنفار على وجهه بعد أن شاهد زيارة «الحكيم» إلى اليرزة، «كلما أنظر إلى صورة أحد الشهيدين لا يمكن إلا أنّ أتذكّر من قتلهما». يتحدّث عن خطف أقرباء العسكريين والاعتداءات على النساء والممتلكات، «لم ننل حقّنا بعد»، ما دام هناك أحكام لم تطبّق، و«المطلوب إعادة محاكمة المجرم».ويذكّر بقول جعجع «فليلتحق الجيش بالقوات اللبنانية».
ربما كان يجدر لقاء رئيس الهيئة التنفيذية للقوات اللبنانية سرّاً، يطرح أخو الشهيدين، وهو ما حصل فعلاً بعد يومين على الزيارة العلنية الأولى. ويقول إنّ ما يجري من تسويات يجب ألا يأتي على حساب دم الشهداء الذين سقطوا من أجل لبنان وفي صفّ المؤسّسة العسكرية الوطنية. ويختم كلامه: «لم يحاكم سمير جعجع لتعديّاته على هذه المؤسسة، وهو لم يفرّق بين مسلم ومسيحي، وكان همّه القضاء على هذه البزّة».



مجزرة عمشيت

في الثاني من شهر شباط 1990، سقط موقع الجيش في عمشيت بعد معارك ضارية مع عناصر القوات اللبنانية. استطاع ما بقي من العسكريين، نحو 15 عنصراً، الفرار باتجاه الأحراج المجاورة. خلال مسيرهم الشاق، رصدهم أحد المعّازين، وبعد دقائق قليلة وجدوا أنفسهم في كمين للقواتيين الذين استطاعوا تطويقهم من كل الجهات. بعد دقائق من الاشتباكات، نادى الميليشياويّون بمكبّرات الصوت «استسلموا تسلموا»، فاتّخذ قرار الاستسلام. بعد سلسلة من «بروفات» الإعدام قام بها القواتيون، تم نقل الأسرى إلى ثكنة أخرى وجرى إعدامهم بعد أمر القائد القواتي «الوضع لا يسمح بأن نخاطر وننقلهم عبر البحر، كذلك لا يمكننا أن نرتبك بهم».