نقولا ناصيف
تتجه انتخابات رئاسة الجمهورية، الثلثاء المقبل، إلى الأخذ بقاعدة «لا غالب ولا مغلوب» على نحو مشابه لأول تطبيق لها عام 1958. حينذاك سبق انتخاب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية اكتشاف هذه المعادلة، المدينة عبارتها للرئيس صائب سلام. انتخب من الدورة الثانية للاقتراع في 30 تموز في ظلّ إجماع سياسي قبل أن تفاجئه أزمة حكومية حُلّت على قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» بتأليف حكومة رباعية، بعد أولى من ثمانية وزراء لم تصمد إلّا أياماً قليلة. كانت الغاية من قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» ـــــ وفلسفتها خصوصاً ـــــ في الحكومة الرباعية إحداث توازن في العلاقة ما بين الموالاة والمعارضة، وفي علاقة رئيس الجمهورية بهما معاً. كان الرئيس رشيد كرامي والشيخ بيار الجميل طرفيها القويين، لكن الطرف الأقوى منهما كان شهاب بقدرة صلاحياته الدستورية والجيش.
منتصف الأسبوع المقبل يُنتخب قائد الجيش العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وتتألف أولى حكومات عهده تحت سقف قاعدة «لا غالب ولا مغلوب» التي حاول الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى لسنة خلت استعارة تجربتها مجدداً في ظل توازن قوى غير متكافىء آنذاك لمصلحة 14 آذار. أخفق لأن قاعدة كهذه يتطلب تطبيقها طرفي نزاع منهكين، كما يتطلّب تفهّم المجتمع الدولي مقتضيات التوازن الداخلي اللبناني وهشاشة قابليته للانفجار، لا الضرب بسيف قرارات مجلس الأمن.
ورغم الإجماع السياسي على سليمان، شأن الإجماع السياسي على شهاب، لن يكون انتخابه رئيساً للجمهورية إلا تكريساً للقاعدة نفسها، وقد انطوت في اليومين المنصرمين، عبر التفاوض المباشر وغير المباشر بين الموالين والمعارضين، على سلسلة تنازلات متبادلة:
أولاها، تخلّي قوى 14 آذار عن نصاب النصف الزائد واحداً ومرشح من صفوفها لرئاسة الجمهورية، وتخلي الرئيس ميشال عون عن إصراره هو الآخر على ترشحه. وبذلك يذهب الفريقان إلى نصاب ثلثي مجلس النواب لانعقاد جلسة الانتخاب، وإلى مواصفات رئيس توافقي لا تستجيب لشروط أحدهما دون الآخر أو على حساب الآخر، بل تدفعهما إلى رئيس توافقي لا يستطيعان إلا تأييد انتخابه في ظلّ الدور التوافقي الذي اختاره قائد الجيش للمؤسسة العسكرية منذ 14 آذار 2005، فأحالها سلطة ثالثة بين اثنتين يُحتكم إليها عندما يتعذّر اتفاقهما.
وهكذا بدا وصول أحد الفريقين إلى رئاسة الجمهورية عبئاً ثقيلاً على الاستقرار ومدخلاً إلى مشكلة لا إلى تمرير الإستحقاق.
ثانيتها، أن طرفي النزاع يتجهان إلى التسليم بآلية تعديل الدستور لانتخاب سليمان توافقية بدورها على نحو لا يجعل أياً من قوى 14 آذار والمعارضة يبدو كأنه خسر المواجهتين السياسية والدستورية، بل حافظ كل منهما على موقفه المبدئي الذي يُشعره بأن تصرّفه كان، ولا يزال، صائباً. ذلك أن تعديل الدستور سيمر بالحكومة، وهو المعبر الإلزامي لإقرار أي تعديل سواء لأحكام دستورية أو لانتخاب رئيس جديد للجمهورية. سيعود الوزراء الستة المستقيلون إلى حكومة الرئيس فؤاد السنيورة للمشاركة في إقرار اقتراح القانون الدستوري الذي يُنتظر أن يصوّت عليه مجلس النواب يوم الثلثاء، في ظلّ تمسك السنيورة ووزراء الغالبية بشرعية حكومتهم، وفي ظل تدوين الوزراء العائدين في المحضر استمرار تحفظهم عن عدم قانونية كل القرارات التي اتخذها مجلس الوزراء منذ استقالتهم في 11 تشرين الثاني 2006. أي على طريقة لا غالب ولا مغلوب من أجل تحقيق هدف محدّد مستقل عن سجالات الطرفين حيال الوضع الدستوري للحكومة الحالية، وهو تمرير صيغة التعديل لانتخاب قائد الجيش بغالبية تتخطى ثلثي مجلس الوزراء إلى أكثر من 120 نائباً، وملاقاة الإجماع السياسي عليه.
الأمر نفسه بالنسبة إلى دور مجلس النواب حيال آلية تعديل الدستور التي كان قد أنجزها النائب بهيج طبارة وأطلع رئيس المجلس نبيه بري عليها. وكان مقرراً أن يصار إلى وضعها موضع التنفيذ البارحة بتوقيع عريضة اقتراح تعديل الدستور من عشرة نواب مناصفة بين الموالين والمعارضين، لكن الخطوة أرجئت بسبب فسحة الوقت الفاصل عن موعد الجلسة السادسة للبرلمان يوم الثلثاء المقبل.
وفي ظل عدم حسم طرفي النزاع موقفيهما من بعض فقرات التعديل، تلحظ الآلية المقترحة صيغة مقبولة تراعي وجهتي النظر اللتين تتجاذبان قوى 14 آذار والمعارضة، بين قائل بإلغاء نهائي للفقرة الثالثة من المادة الـ49 من الدستور المتعلقة بترشّح الموظفين، وقائل بأن يكون التعديل استثنائياً ويكتفي بإزالة المانع الدستوري الذي يحول دون انتخاب قائد الجيش.
ثالثتها، أن الموالين والمعارضين يستعيدون تواطؤ التحالف الرباعي بإبرام اتفاق مسبق على آليّة حكم المرحلة المقبلة التي لن تتعدى الانتخابات النيابية ربيع 2009، عبر التفاهم على تقاسم الحقائب بينهما. وهو ما كان قد حصل قبيل انتخابات بعبدا ــــــ عاليه في حزيران 2005 عندما ربط التحالف الرباعي بين الائتلاف الانتخابي لأطرافه في هذه الدائرة وتقاسم مقاعد أولى حكومات ما بعد الحقبة السورية بدءاً بالاتفاق على السنيورة رئيساً للحكومة وتوزير حزب الله للمرة الأولى في تاريخه بحزبي، بعدما تمثّل في حكومة الرئيس نجيب ميقاتي بوزير حليف لا حزبي ملتزم. اليوم يكرّر الرئيس ميشال عون اللعبة إياها بما لا يجعله ضحية التواطؤ السابق، فيكون العضو الخامس في تحالف إدارة حكم المرحلة المقبلة. وكما كانت المخالفة الدستورية الأولى عام 2005 في ظل رجحان كفة قوى 14 آذار، فإن المخالفة الدستورية الثانية تشق طريقها إلى الاتفاق على حكومة جديدة تراعي توازن قوى جديداً أضحى أكثر تعقيداً للغالبية ومسيحييها وخصوصاً مع دخول عون طرفاً رئيسياً فيه. الأمر الذي أدى إلى اتفاق الموالاة والمعارضة على تقاسمهما مناصفة الحقائب السيادية الأربع، وتخلي قوى 14 آذار عن ثلثي مقاعد مجلس الوزراء، في مقابل عدم إعطاء المعارضة نصاب الثلث المعطل لتفادي استئثار فريق بالسيطرة على مجلس الوزراء أو شلّ فريق آخر أعماله.