strong>نيبال الحايك
• أقعده خطأ طبي، فتحوّلت والدته ندى إلى ورقته وقلمه

«أنا أكتب وهم لا يكتبون... هم يمشون وأنا لا أمشي»، جملة صغيرة تختصر حياة الشاب كريستوفر قصارجي الذي أصدر ديوانه الشعري الأوّل عام 2002 وشارف على إنجاز ديوانه الثاني من دون أن تقف إعاقته الجسدية حاجزاً أمام «صناعته» للحروف العربية التي تتحول إلى كلمات فقصائد تنبض بالحب والحياة

يحرّك «كريس»، كما تحب أمه مناداته، يديه معبّراً عن بهجته لأنه استطاع خلال الأيام الماضية أن ينجز قصيدة جديدة مفعمة بالحبّ مهداة إلى «صبية» جميلة رفض الإفصاح عن اسمها. تتسع ابتسامته لأنه يعرف أن القصائد التي يكتبها هي ما سبب له شهرة واسعة. يضحك وينظر إلى أمه كأنه يقول لها: «انظري ماذا فعلت قصائدي».
قصائد كتبها بالطريقة نفسها التي أجاب فيها عن أسئلتنا. نطرح السؤال فيجيب عبر لوحة الحروف العربية الخاصة به. ينتقل من حرف الى حرف ليكوّن كلمة بمساعدة والدته، ندى، التي تجيب أحياناً عن بعض الاسئلة لأنها تعدّ نفسها وكريس شخصاً واحداً.
ولد كريس عام 1981. تسبّب خطأ طبي بفقدانه الأوكسيجين خلال الولادة، فأصيب بتشنّجات سببت له شللاً دماغياً (IMC) بحيث بات لا يستطيع التحكم بحركاته، إذ تغلب اللا إرادية منها على الإرادية. كذلك لا يستطيع النطق أو المشي، لكن عقله الباطن عوّض عليه خسارته مهارات النطق والمشي والتحرك، من خلال كتابة الشعر بطريقة خاصة. هو يدلّ إلى الحروف الأبجدية العربية في جدول صُمّم خصيصاً له، حيث يختار الحروف ليكوّن كلمة ومن بعدها جملة ومن ثم قصيدةهو المولود الثاني لأهله. بقي حتى سن التاسعة بين أفراد عائلته، ولم يدخل أي مدرسة بسبب وضعه الصحي وعدم توافر مدرسة خاصة بحالته في جوار سكنه. في تلك الفترة تكفلت العائلة بجلب معالج فيزيائي. مع بلوغه التاسعة التحق بمعهد خاص للمصابين بالشلل الدماغي، في مركز بحنس الطبي، وبقي فيه أربع سنوات، حيث درس بطرق خاصة العلوم المدرسية في المنهاج (رياضيات ـــــ علوم ـــــ تاريخ ـــــ جغرافيا ـــــ ولغات أخرى) بالإضافة إلى متابعته علاج: Physiotherapy- Ergotheray – Orthophonie وممارسته نشاطات أخرى تتناسب مع وضعه الجسدي. كل هذا بمساعدة مسؤولين ومختصين يهتمون بدروسه وحالته الصحية والنفسية.
تقول والدته، التي لا تفارقه، إنه دخل المعهد متأملًا تعلّم الكمبيوتر، لكن لم يكن ممكناً توفير كومبيوتر خاص له هناك بسبب سعره المرتفع وعدم توافره في لبنان.
تضيف والدة كريس التي تتحدث معه بالعربية والفرنسية، وبشكل أقلّ الإنكليزية، أنّها طلبت من معلّمته الخاصة أن تركز في تعليمه على أصول اللغتين العربية والفرنسية: «كان لدي شعور قوي بأن ابني، منذ صغره، يمتلك موهبة نظم الشعر وينظمه. حين كنت أقرأ له بصوت عال قصائد ونصوصاً لجبران خليل جبران وسعيد عقل ونزار قباني وآخرين، كذلك كنت أقرأ له من الصحف والمجلات ما ينمّي موهبته الشعرية».
نظم كريس قصيدته الأولى وهو لم يتجاوز الثامنة عشرة ربيعاً بعنوان «دربي»:
الدرب صعود، وشكر، وصلوات لله... / طهارة، ظواهر وجدانية، وكفاح / حلول، هلع، كوارث، وكلام سعيد / قروح عصبية زوّدتني ثراء النفس
اضطراب عكّر فؤادي ورثني الوجع / ثورة وعقبات ألهمت أقلامي / جلب سكوتي سؤالاً وكدراً / قلق الحب وهبني الكبرياء / لجأت إلى الكتابة تعويضاً. / بعد هذه القصيدة، أيقنت والدة كريس أن موهبة ابنها الشعرية لا بد من أن «تترجم» في ديوان بدأ يجمع قصائده حرفاً حرفاً إلى أن أصدره تحت عنوان «عزلة ورؤى»، وطرح فيه مختلف المواضيع وإن بقي الحب سيّد الموقف في 36 قصيدة ضمّها الديوان.
تشرح والدة كريس الطريقة التي يكتب فيها ابنها الشعر، تجلس قربه لساعات حاملة لوحة الحروف العربية، «يختار منها الحرف تلو الحرف، وأدوّن أنا على ورقة ما يختاره إلى أن يصنع كلمة تليها كلمة، وكلما أنجز كلمة يضحك كثيراً... ولكل قصيدة قصة».
ندى التي تحولت الى قلم ابنها ودفتره، لا تكف عن الحديث عنه وعن إبداعاته ونجاحه وشهرته: «أراه طفلاً عندما أهتم به، ورجلاً عندما يكتب الشعر. لا أتخيّل نفسي يوماً من دون رؤيته أو الكلام معه في أمور العائلة وأمورنا الشخصية»يتجاوز تعلّق ندى بابنها الحدود، فهي مستعدة في أيّ وقت وأيّ مكان أن تكون قلمه الذي لا يتعب من الكتابة وعقله الذي لا يتوقف عن التفكير، فهي وهبت حياتها له ووهبته حريتها. تضيف بفرح: «كريس يحب الرسم لكن إعاقته تمنعه من مزاولتها، كذلك يحب الاستماع إلى الموسيقى والجاز ومشاهدة الأفلام التي تجسّد قصصاً شبيهة بحالته، أنا تعلّمت الكثير من هذه الأفلام وكنت أشعر بأن ابني سيجيد الكتابة يوماً ما، لكنني لم أكن أتوقع أن يكتب الشعر. ربما كنت الوحي له».
في ديوانه الأول كتب كريس قصيدة مهداة إلى أمه التي آمنت بإعاقته:
وهدتني بصبرها لهناء العيش / وسقتني سعادة وحبا، / فنبتا شعراً وقدرا. / أعبد الله الذي وهبني أمي / بلسماً للحب / عيناها هيكل لقلبها / أسمع همساته / هدوء، سكينة، كرتبة دينية / تهيم عفة وحباً / صادقة، لا ريب فيها / حبها غيّر دستور البشر / غدت كشجرة مثمرة / غردت فيها الطيور / لبوة سترت أشبالها / بدرع من عاطفة مبهجة.
نسي كريس إعاقته الجسدية وأبدع في الشعر والكتابة، فحياته التي اقترنت بكرسي متحرك لم تمنعه من «التطلّع» من على شرفة منزل أسرته في شتورا، محدقاً بالناس الذين يمشون ذهاباً وإياباً. وحين تسأله ألا تتأثر برؤيتك لهذا المشهد يجيب: «أنا أكتب الشعر ولا أمشي... هم يمشون لكن لا يكتبون الشعر الذي أكتبه». وتقول والدته ندى: «كريس لم يعرف نفسه إلا هكذا، وبالتالي فإن المشي لا يعني له شيئاً إطلاقاً... تأقلم مع حياته ونمط عيشه الهادئ والجميل».
يتابع كريس كلّ الأخبار والبرامج السياسية في لبنان، وهو يحبّ الجنرال ميشال عون «اللبناني بآرائه الخاصة المميزة». كذلك لم يترك لحظة واحدة تعبر من دون حبّ، فهو أحبّ في أوائل بلوغه فتاة «ألّف» من أجلها الكثير من كلام الحبّ والاشتياق، حيث يراها ملهمته الأولى والأخيرة. وتقول والدته: «لكنها تزوجت وعاد كريس إلى حياة الوحدة رغم وجود الأصدقاء والأهل من حوله. عاد بعدها إلى اللعب والضحك والبكاء ومشاركة الهموم مع شقيقته ميريامالتي لا تكف عن اللعب معه واستفزازه أحياناً، إضافة إلى شقيقه جان جاك الذي لا يستطيع كريس تمضية يومه من دون المزاح معه». شقيقته ميريام تتحدث باعتزاز عن «خيي الشاعر الذي لم نشعر يوماً بأنّه مختلف عنا، أو أننا مختلفون عنه». وتضيف مازحة: «عند كريس مشكلة وحيدة، يريد أن يلتزم الجميع برأيه كما يريد، لكنه يبقى رومنطيقياً إلى أبعد الحدود وحلمه أن يتزوج».
يرفض الشاعر كريستوفر قصارجي أن يُبقى قلبه مقفلاً، فيجدّد أحاسيسه بالحبّ كلما عطشت شرايين قلبه، فالنبض «العاشق» يدفعه إلى كلمات الحب والشعر «لأن حياته مليئة بالأمل والفرح». ويتابع كريس بعد أن ينتقي الحروف من «لوحته» أن أمنيته الوحيدة أن يبقي الله أمه وعائلته بخير وإلى جانبه، مؤكداًَ أنه غير مبال بأنه لا يمشي أو ينطق، مكتفياً بصحته الجيّدة وعقله الذي تخرج منه أبدع الأعمال الشعرية. معلناً في ختام اللقاء الطويل معه أنه من هواة السهر في «النايت كلوب» ويخرج مساء كلّ سبت مع إخوته للسهر والضحك والترفيه، فهو لا يخرج كثيراً من المنزل إلا برفقة والدته.



وسام الأرز

منح رئيس الجمهورية السابق اميل لحود كريستوفر قصارجي وسام الأرز الوطني برتبة فارس عام 2003 تقديراً لعطاءاته في حقل الشعر والفكر إثر صدور ديوانه الأول.
كذلك حاز جوائز وشهادات تقدير من عدة مؤسسات إنسانية وثقافية واجتماعية في لبنان والعالم العربي.
وأعدّت تالين كيباريان فيلماً وثائقياً عنه حمل عنوان «عزلة ورؤى»، نال جائزة أفضل فيلم وثائقي لبناني في مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية ـــــ الدورة الخامسة (2003) حيث رسم الفيلم «بورتريه» عن كريستوفر الشاعر والإنسان في أعين أهله وحبيبته الوحيدة... إضافة إلى رصد يوميات حياته في وحدته.