إبراهيم الأمين
لم يكن في وارد أي طرف داخلي، سواء ممّن «تقدموا» أو «تراجعوا»، الإشارة مباشرة إلى العناصر المحلية التي سببت هزة الثاني والعشرين من تشرين الثاني. كان على القوى المتصارعة أن تخفي حالة استنفار توحي بقرب اندلاع مواجهات من النوع الذي يطيح كل مشروع السلم الأهلي الذي قام منذ عام 1990. الأجانب والأجهزة الأمنية على اختلاف جنسياتها وموفدون عرب ودوليون كانوا يفركون أعينهم وينبّهون الآذان وهم يرون ويستمعون إلى ما يحصل. وفي لحظة واحدة شعر الأميركيون، ومعهم فريقهم في لبنان، بأن البلاد مقبلة على اختبار من النوع القاسي جداً، وأنه لا أحد سيكون في مقدوره التصرف خارج قواه الذاتية.
في تلك اللحظة بالضبط، قلب وليد جنبلاط صفحة الرجولة الزائدة: كنا نريد إطاحة بشار الأسد وأحمدي نجاد ونزع سلاح حزب الله ونفي ميشال عون من جديد، وإذا بنا لا نعرف ما الذي فعله وئام وهاب في الجبل؟
ولأن الغاية تبرر الوسيلة، استل المعنيون كتاب «الأمير» وقرأوا في صفحاته أنه لا بد من استدارة ما. فكانت سلسلة من الرسائل وسلسلة من الخطوات.
في رأي المرجع السياسي الأبرز في الحياة السياسية اللبنانية أن الصورة بدت أكثر وضوحاً، ولو أنها تحتاج إلى وقت حتى ترسو على بر وتكتمل نهائياً ويتضح الوهمي من الحقيقي. لكن الوقائع جاءت على الشكل الآتي:
1ـــــ تراجع فريق 14 آذار مباشرة من التوجه نحو انتخاب نسيب لحود بالنصف +1 إلى التخلي عنه نهائياً والسير في لعبة تضعه وبطرس حرب خارج المنافسة. ثم حصل تراجع آخر بقبول مبدأ التعديل الدستوري، وبدل اللف والدوران تقرر السير بترشيح قائد الجيش العماد ميشال سليمان. وفي هذه الخطوة حصل تراجع يعيد إلى الأذهان قبول فريق عبد الحليم خدام في الإدارة اللبنانية بقرار التمديد للرئيس إميل لحود. وصار ممنوعاً انتقاد قائد الجيش. وسحب سعد الحريري ووليد جنبلاط ألسنة صغارهم عن مواصلة مهاجمة العسكر والعبث بالدستور وإلى ما لا نهاية من العَلْك الذي ضجّت به آذان اللبنانيين منذ أنزل الله غضبه وسلّط عليهم مَن سلّط من أهل الثرثرة.
2ـــــ في ملف الحكومة، تعهد سعد الحريري، بحضور الجانب الفرنسي وبمعرفة السعودية ومصر، أن أي حكومة جديدة سوف تكون فيها للمعارضة حصة الثلث المعطل، وأن النقاش على توزيع الحقائب السيادية أمر لا مفر منه، وسوف يتم على نحو يعيد خلط الأمور ويكسر الصورة التي حاول فريق السلطة الاستمرار بها منذ تأليف حكومة السنيورة، بما في ذلك الاستعداد النفسي لدى أركان 14 آذار الأمنيين للتعامل مع المرحلة المقبلة بطريقة مختلفة عن السابق (باشر ضباط من فرع المعلومات التواصل مع شخصيات من الجانب الآخر لترتيب الكثير من الأمور في هذه المرحلة الانتقالية).
3ـــــ وافق فريق السلطة على إقرار قانون انتخابي على أساس القضاء، وهو القانون الذي لا يناسب الحريري في بيروت ولا جنبلاط في بعبدا وربما في عاليه، ويهدد مصالح الفريقين في البقاع الغربي، فيما ينفّس الانتفاخ غير الطبيعي لمسيحيي 14 آذار في الشمال. وهو قانون لا يفضله حتى الرئيس بري، علماً بأن القانون الأكثري على أساس القضاء لن يكون وسيلة تترك لفريق من الفريقين حسم المعركة سلفاً لمصلحته.
4ـــــ إقرار فريق السلطة بأن ملف سلاح المقاومة بات خارج التداول الفعلي، أي إنه لن يكون هناك مواد ذات طابع رسمي تصيب المقاومة، بل سوف يكون هناك إقرار جدي بالصيغة التي وردت في البيان الوزاري التي تحمي المقاومة ودورها وتنص على التنسيق مع القوى العسكرية والأمنية.
وبحسب المرجع الأبرز في السياسة اللبنانية، فإن النتائج أعادت الاعتبار إلى التيار الوطني الحر قوةً رئيسية وحاسمة في الشارع المسيحي، وأبرزته قوةً قادرة على العمل أو الاعتراض إن لم تكن راضية. كما أن مؤسسة المجلس النيابي ظلت صامدة رغم كل محاولات التعرض لها وتعطيلها وتهميشها في القرارات المصيرية.
ومن الناحية الإقليمية يلفت المرجع الأبرز إلى أن فريق 14 آذار ومعه الجهات الخارجية يرجعان إلى حسابات إقليمية تعيد الاعتبار إلى سوريا القوة الأكثر قرباً من المعارضة، والأكثر خصومة لفريق السلطة الذي تورط وحاول توريط البلاد في مواجهات غير منطقية معها، وهو أمر انعكس سلباً على نفوذ الفريق الإقليمي الداعم لـ14 آذار.
لكن هل انتهى الأمر عند هذه الحدود؟
يبدو أن النقاش في مستقبل العملية السياسية الداخلية سيظل رهن اختبارات لدى قوى عديدة، بينها قوى المعارضة. فالقبول بالوضع الجديد دون ضمانات جدية ليس بالسهل، وربما كان سلوك العماد ميشال عون ومواقفه هما الأكثر تعبيراً عمّا يجري، مع ما طرحه عون من سلّة كاملة للحل، شملت منع تيار «المستقبل» من تولّي رئاسة الحكومة وتحديد ولاية أي رئيس توافقي بمدة زمنية تنتهي مع حصول الانتخابات النيابية المقبلة. علماً بأن تطورات الأيام القليلة الماضية أشارت إلى إمكان عقد تسويات تتيح فتح الباب أمام مرحلة جديدة، وربما هذا ما يفسّر التوتر الذي أصاب فريق السلطة أخيراً وانقلابه على التوافق الإجمالي والتمسك بالوضع الحكومي الذي يعرف أركان السلطة أنه لن يصبح موضع اعتراف لدى المعارضة، فضلاً عن أن وضع السلطة بات أكثر صعوبة من السابق، رغم المقويات التي تحقنها بها مصادر داخلية وخارجية.
في الخلاصة، يلفت المرجع الأبرز في السياسة اللبنانية إلى أن قوى المعارضة ليست متضررة من التسوية التي يمكن أن تتم في أي وقت، وأن سوريا نفسها المتهمة بالعرقلة حققت الكثير من النتائج التي لم تكن متوافرة لها قبل ستة أشهر، وبالتالي ليس منطقياً أن تلجأ المعارضة إلى التعطيل، وخصوصاً أن المرشح لرئاسة الجمهورية كان ولا يزال صديقاً لغالبية قادة المعارضة ولسوريا أيضاً.

المواجهة المفتوحة بين معطيين داخلي وخارجي (1)
مقاصة تُظهر المعارضة رابحة وداعمة للتسوية (2)