جان عزيز
ثمّة محظوران كبيران، عند الكلام الإعلامي في القضايا الجنائية. أولهما: أن يكون الأمر تطفّلاً على الحدث الجلل بطبيعته الدقيقة والمتّسمة عادةً بالسرية. وثانيهما: أن يبدو أن هدف المقاربة الإعلامية توظيف سياسي لقضية مفجعة.
اغتيال مدير العمليات في قيادة الجيش اللبناني العميد الركن فرنسوا الحاج، صباح يوم أمس، يقع من حيث الحديث الإعلامي عنه، في قلب المحظورَين المذكورين. غير أن ذلك لا يمنع من تقليب القضية من أوجه عدة، وخصوصاً حين تتكوّن انطباعات كامنة أو مكتومة لدى الناس، بأن الجريمة كان يُفترض ألّا تقع، لأكثر من سبب وسبب في السياسة والأمن والظرف القائم والخلفيات السابقة للاغتيال، وما يمكن خصوصاً لهذا الاغتيال أن يخدم أو يقدّم.
ولأن القضية بهذا الحجم الإنساني والوطني، تصير الأسئلة ضرورية، ومنها، على سبيل الاستعلام والإعلام، ما يأتي:
1 ـــ في 6 حزيران الماضي، أي قبل ستة أشهر وستة أيام على الجريمة، صدر عن المديرية العامة لأمن الدولة بيان رسمي يشير إلى إلقاء القبض على «خلية إرهابية في بلدة بر الياس»، وإلى أن أفرادها أوقفوا، وصودرت «ثلاث سيارات كانت معدّة للتفجير ومخبّأة تحت الأرض». وطبعاً يختم البيان الرسمي أن التحقيقات لا تزال جارية «بناءً على إشارة القضاء المختص وبالتنسيق مع باقي القوى الأمنية».
كان ذلك في خضمّ معارك مخيم نهر البارد التي اندلعت في 20 أيار. وكما في كل مرة راحت الأخبار والتسريبات الأمنية تتلاحق بعد أيام، لتتحدث عن أسماء الموقوفين، وعن هوياتهم، وعن زعامة أصولي سعودي للخلية المكتشفة وعن تنسيق مع «القاعدة» وعن كل ما يلزم من التفاصيل لإقفال صفحة التفجيرات المتسلسلة... فجأةً، بعد ستة أشهر على تلك الوقائع الكاملة، نجدنا مضطرين إلى سؤال الجهات الأمنية والقضائية والحكومية والرسمية: أين أصبحت تلك الرواية؟ أين الموقوفون والمتورطون؟ أين القرار الظني، والاتهامي والمحاكمة وما يمكن رأس الخيط أن يكشف ويفضح ويصل؟
2 ـــ في 24 حزيران، ورغم كل ما سبق، استُهدفت الوحدة الإسبانية العاملة ضمن قوات اليونيفيل، بانفجار في سهل الخيام. بعدها وفي 17 تموز استُهدفت الوحدة التانزانية بانفجار آخر على جسر القاسمية. كانت معارك البارد لا تزال محتدمة. وكان الاتهام والالتفات جاهزَين ومنطقيين، صوت فتح الإسلام وقاعديي شاكر العبسي مجدداً.
استمرت السرية سيدة التحقيقات. إلى أن كشفت وسائل الإعلام في 8 تشرين الأول الماضي أن ثمّة موقوفاً لدى الأجهزة الأمنية الرسمية متورّطاً بتفجير القاسمية، لا بل تبيّن أن المتهم كان من ضمن ما عُرف باسم شبكة إقليم الخروب التي أُلقي القبض عليها في 16 أيلول الماضي، أي في اليوم التالي لوقوع الناطق الإعلامي في فتح الإسلام، أبو سليم طه، في أيدي الجيش اللبناني.
وبمعزل عن «الحادثة السرية» التي كان سجن رومية مسرحاً لها، في ما يتعلق بالشخص الموقوف نفسه، وبمعزل عمّا حُكي علناً عن تورّط جهات حزبية حكومية مع أفراد أمنيين في تلك «الحادثة»، ظل الثابت أن قائد قوات اليونيفيل، الجنرال كلاوديو غراتسيانو، أكد في 9 تشرين الأول الماضي علمه «بأن قوى الأمن اللبنانية اعتقلت شخصاً نفّذ الاعتداء ضد الجنود التانزانيين في 17 تموز». وأكد معرفته بأن «هناك تحقيقات جارية في الحادثة ضد الجنود الإسبان، وأجهزة الاستخبارات في الجيش متفائلة بأنه سيتم القبض على المتورّطين».
بعد شهرين ونيّف عن كشف تلك المعلومات، هل ثمّة من يشير إلى مصيرها وكيفية توظيفها في وقف الجريمة المتمادية؟
3 ـــ في 15 أيلول الماضي، أي بعد نحو أسبوعين على انتهاء معارك البارد، أعلن القبض على أبو سليم طه. وكان لافتاً الإشارة إلى أن أحد أبرز وجوه فتح الإسلام، بات في عهدة الجيش، بعدما كانت حالات إلقاء القبض السابقة، من أبو جندل اللبناني إلى أبو هريرة من نصيب أجهزة أمنية أخرى، وبعدما كانت قد انتهت في معظمها إلى حالات وفاة للمتورطين.
طه في عهدة الجيش إذاً منذ نحو 3 أشهر. وفي هذه الأثناء تحوّلت القضية مادة دسمة لجدل كثير ولهمس أكثر. في الإعلام كُتب الكثير عن اعترافات منسوبة إلى قيادي التنظيم الأصولي. وخارج الإعلام يقال أكثر عن أسرار مزعومة باح بها «الإعلامي» السابق، عن لقاءات بمسؤولين وأمنيين وسابقين. وبين ما كُتب وما نُسج، ظل الملف في مرحلة ما قبل القضاء، وما قبل علنية التحقيق والمحاكمة، بعد نيّف و3 أشهر.
4 ـــ تبقى القضية الأم لكل ما سبق: شاكر العبسي. أقفل الموضوع بعد ثلاثة أشهر على اختفائه، كفص ملح في مياه البارد، صبيحة ذلك النهار في الثاني من أيلول. الشهادات «الخاطئة» عن جثته الموهومة صارت وراء حصانة بعض العمامات، وخلف مصادفات ترحيل عائلية إلى الأردن. ليتحوّل الرجل الذي خلّف وراءه شهداء الجيش في نهر البارد، لغزاً قادراً على إضافة شهيد جديد من قيادة الجيش، في قلب بعبدا.
أسئلة ساذجة عن الأمن السائب. لكنها لا تقرب التطفّل ولا تبغي الاستدراج. حسبها أنها تماثل غصّة العينين الحمراوين لقائد عسكري وهو ينعى أمس رفيق سلاحه.