فيصل القاق *
يحل اليوم العالمي للإيدز هذا العام وقد استوى المعدل العالمي لانتشار حالة «إيجابيي المصل»، أي الأشخاص الحاملين فيروس الإيدز من دون عوارض، مع المعدلات السابقة. كما تدنى عدد الإصابات الجديدة المسجلة.
الا أن خطورة التعرض ما زالت مرتفعة، ومردّ ذلك إلى أسباب عديدة، منها تدني المعرفة والوعي، تجارة الجنس، العنف الجنسي، أحوال الصحة الإنجابية، وغيرها. جاء ذلك ليُخرج الإيدز من إطار المقاربات الضيقة كإطار مثليي الجنس إلى تحديات أكبر تقع في صلب مواضيع التنمية، ما أدى إلى وضع «الحد من انتشار الإيدز» في صلب أهداف الألفية التنموية.
في لبنان، بقي الحديث عن الإيدز مرتبطاً بالشكل الجاهز والمفبرك ليصبح أمراً تبسيطياً يمعن في دفن الرأس أكثر في رمل الحقائق من دون تقبل أي منها، ومن دون تقديم سياسات مسؤولية ووقائية. إلا أن نتائج إيجابية تسجّل للبرنامج الوطني للإيدز في وزارة الصحة لجهة قيامه بجهود ملموسة على صعيد إجراء دراسات وأبحاث تتعلق بمستوى المواقف من السيدا وما يتعلق به من مواضيع العلاقات الجنسية والوعي، كي تتكون صورة أوضح عن واقع البعد الجنسي للعلاقات الشخصية داخل الشرائح العمرية والمجتمعية المختلفة. كما يقوم البرنامج بحملات دعائية لزيادة الوعي والمعرفة، ولحمل الأشخاص على إجراء فحص الفيروس مجاناً وبالسرية المطلقة.
بموازاة ذلك يقوم أيضاً البرنامج الوطني للصحة الإنجابية في وزارة الصحة وبدعم صندوق الأمم المتحدة للسكان بنشاطات وإجراءات ودراسات تُسهم جدياً في التعاطي المسؤول مع الإيدز ضمن إطار المفهوم الشامل للصحة الجنسية الإنجابية. وأدى نشاط هذين البرنامجين، بالإضافة إلى نشاطات هيئات أخرى، إلى ربط الإيدز بالمحددات العريضة لأسبابه، وبالتالي فرض معطيات لا بد من التعاطي معها، كضرورة إدخال مادة التربية الإنجابية ـــــ الجنسية إلى التعليم المدرسي، وخدمات الصحة الجنسية إلى المراكز الصحية، وخصوصاً لفئة الشباب، والتربية على الجندر.
توجد أساليب عدة لمكافحة الإيدز، إلا أن أهمها طرق غير مألوفة كـ«التربية الجنسانية» (sexuality education) وهي تختلف عن «التربية الجنسية» (sex education)، إذ تتضمن الأولى التربية الجنسية بالمعنى البيولوجي والوظائفي، وثقافة المعرفة الجنسية ودورها في شخصية الأفراد، الهوية الجنسية، النوع الاجتماعي، المسؤولية، الصحة الإنجابية والجنسية، تراكم المهارات والقدرات على الفهم والتعبير الجنسيين، ثقافة الجسد، الوقاية، الذكورة والأنوثة، العلاقات الشخصية، تأثير الجوانب الاجتماعية والثقافية وغيرها. وهي ثقافة حياتية تبدأ من المنزل وتتبلور في المدرسة لتعطي الأفراد مهارات هم بأشد الحاجة إليها.
وتشير الدراسات الحديثة في لبنان والعالم إلى أن التربية الجنسانية في المدارس خففت من السلوكيات الخطرة ومن التعرض لممارسات جنسية غير آمنة. وتأتي هذه الدراسات لترفد نقاشات مستعرة في دور التربية الجنسانية وثقافة الحقوق في مسألة الجنسانية. ولم يكن لبنان بعيداً عن ذلك، ففي العام الدراسي 97/98 لم توفق تجربة إدماج «التربية الجنسية» في المناهج المدرسية، وتخللتها ثغرات تتعلق بأهداف التجربة وبالنتائج المرجوة، وبقدرة الكوادر التعليمية على تقديم مواد وموارد تتعلق بهذا الموضوع.
بقيت «التربية الجنسية»، ولا تزال، «عفوية» و«موسمية» تعتمد على تنظيم محاضرات من وقت إلى آخر من دون أن ترتقي لتكون في أساس المناهج التعليمية في المدارس اللبنانية، وخصوصاً أن التربية «تراكمية»، ولا جدوى من ندوة هنا أو محاضرة هناك. إشكالية أخرى ارتبطت إلى حد ما بالكادر المتخصص في «التربية الجنسية»، إذ يبادر المسؤولون إلى تسمية أساتذة البيولوجيا أو العلوم، وفي أمكنة أخرى مدرس «مادة الأديان» أو حتى كوادر من المؤسسات الدينية أساتذةً لمادة التربية الجنسية.
يقود المركز التربوي حالياً، بالتعاون مع صندوق الأمم المتحدة للسكان مشروعاً متعدد الأهداف يقضي بإدخال التربية إلى الصحة الإنجابية والتربية الجنسية في المناهج المدرسية، وذلك بإشراك مختلف أنواع المدارس، بغية الخروج بمادة مفيدة شاملة غنية وقابلة للاستمرار. وإذا كتب النجاح لهذه التجربة، يكون لبنان قد خطا خطوة مميزة في مجال التعاطي التربوي والتثقيفي مع الصحة الإنجابية والجنسية، في بيئة تتسع فيها الهوة بين المعرفة والممارسات، والواقع والخدمات، إذ تبدأ مع ترسيخ التربية الجنسانية مرحلة جديدة وجدية من الوقاية والحماية ليس من الإيدز فقط، بل من ممارسات ومن سلوكيات غير آمنة في العلاقات الجنسية، ومن مواقف وآراء «مفبركة» سلفاً تزيد من تنميط الآخرين وتهميشهم ومن العنف الجندري والجنسي.
* طبيب وباحث في الصحة الإنجابية والجنسية في كلية العلوم الصحية ـــــ الجامعة الأميركية