نقولا ناصيف
لوهلة، يوحي تكليف المعارضة الرئيس ميشال عون التفاوض باسمها مع الموالاة على المرحلة التالية لانتخاب رئيس جديد، كأنّها لا تريد التفاوض أبداً. والذين خبروا التفاوض مع عون لسنوات خلت، حتى الأمس القريب، مذ أضحى طرفاً في معادلة الصراع السياسي الداخلي عام 1988، يرون في الرجل المحاور الأصعب والأكثر استعصاء على الاتفاق معه خارج شروطه. إنه العسكري ـــــ وإن أضحى زعيماً سياسياً ونائباً ـــــ الذي يوجّه الضربة قبل أن يجلس إلى طاولة التفاوض لاحتساب المكاسب. يحوط نفسه بمطالبه للتفاوض، ويقيم داخلها ويرفض المساومة، وإن خسر جولة التفاوض، بل أيضاً جولة الصراع برمتها. بأسلوبه هذا، أخرج نفسه من تسوية الطائف قبل أن تخرجه معادلة الصراع والتوازنات الإقليمية من ساحة المعركة. كان حينذاك بلا حلفاء. اليوم يستعيد اللعبة نفسها بحلفاء أقوياء.
كانت تلك حاله مع مدير مكتب لبنان وسوريا والأردن في الخارجية الأميركية دافيد نيوتن ودانيال سمبسون عندما حاولا إقناعه عبثاً عام 1988 باتفاق الأسد ـــــ مورفي على النائب مخايل ضاهر رئيساً للجمهورية، وفي تونس مع اللجنة الوزارية العربية السداسية المكلفة عام 1989 حل المشكلة اللبنانية، ومع الموفد العربي الأخضر الإبرهيمي عاجزاً هو الآخر عن إقناعه باتفاق الطائف، ثم مع السفير الفرنسي رينيه ألا حتى عام 1991، ومع السفيرين الأميركي جيفري فيلتمان والفرنسي برنار إيمييه في العامين الماضيين، وصولاً إلى الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى، فإلى لائحة طويلة من الموفدين الدوليين والوسطاء الأوروبيين الذين عرفوا عون محاوراً مضنياً ومنهكاً، ولم ينتزعوا منه ما لا يريد التخلي عنه، وأحياناً فظاً عندما يتعمّد محاوره استفزازه، على غرار ما درج السفير فيلتمان على فعله عندما كان يحضّه، في معظم لقاءاته به، على فك تحالفه بحزب الله والانتقال إلى معسكره «الطبيعي» في قوى 14 آذار، فكان يقابله برد فعل مشابه بفظاظته.
وهكذا، فإن جلوس عون مفاوضاً وحيداً باسم فريق المعارضة يفضي إلى إحدى نتيجتين لا ثالث لهما: أن يرغم محاوره على الرضوخ لشروط المعارضة، أو يخسر هو الجولة. بين عامي 1988 و1990 ربح رئاسة الحكومة العسكرية قبل أن يخسر كل شيء، وأخصّه موقعه في المعادلة. وفي المواجهة الحالية خسر عون وصوله إلى رئاسة الجمهورية، إلا أنه أضحى القوة الأقدر على منع خصومه من الانتصار الكبير والصغير في آن واحد. ولأن المعارضة فوّضت إليه التفاوض مع الطرف الذي تختاره قوى 14 آذار، تبدو أبواب التسوية موصدة، إلا إذا اختارت الغالبية العودة إلى الورقة المستورة. وتتركز دوافع هذا التفويض على المعطيات الآتية:
1 ـــــ إن سحب عون ترشيحه للرئاسة والاتفاق على قائد الجيش العماد ميشال سليمان مرشحاً توافقياً، لا يجعله خارج التسوية السياسية التي تصرّ المعارضة عليها حيال قوى 14 آذار. والخوض في ملف غير مسيحي، هو رئاسة أولى حكومات العهد الجديد، لا يجعل هذا الاستحقاق شأناً سنّياً ـــــ شيعياً، بل هو جزء لا يتجزأ من مجمل الاتفاق، بدءاً من بنده الأول الذي هو التوافق على انتخاب سليمان رئيساً، الأمر الذي يبقي عون شريكاً ثابتاً في خيارات التسوية.
2 ـــــ بعدما أجرت لجنة المتابعة المنبثقة من أركان المعارضة، عقب سلسلة اجتماعات عقدتها في الأيام المنصرمة منذ عطلة نهاية الأسبوع الفائت، مراجعة شاملة، خلصت إلى قراءة سلبية تستند إلى مؤشرين: أولهما إخفاق الحوار بين رئيس المجلس نبيه بري ورئيس تيار المستقبل النائب سعد الحريري، وثانيهما تبديد الانطباع بوجود مواقف متباينة بين الأركان الثلاثة للمعارضة، وهم بري وعون وحزب الله، حيال الحوار الدائر بين الغالبية والمعارضة. وانتهت بخلاصة مفادها المحافظة على التحاور مع الطرف الآخر ما دامت ثمة قواعد موجودة لهذا الحوار، ولكن مخاطبته بأسلوب آخر. حمل ذلك بري على إبلاغ القائم بالأعمال الفرنسي أندره باران بأن المفاوض الوحيد باسم المعارضة هو عون. كذلك أبلغ بري الأمر إلى جهتين أوروبيتين أخريين معنيتين بجهود الوساطة حيال انتخابات الرئاسة اللبنانية، هما السفيران الإيطالي والإسباني. وقد أحاط أفرقاء في قوى 14 آذار علماً بذلك.
3 ـــــ رغم أن عون هو المحاور المكلّف، فإن إطار التفاهم الذي أرساه قبل أسبوع وزير الخارجية الفرنسي برنار كوشنير لا يزال سارياً في خطوطه العريضة، وهو ـــــ كما يبدو في أوساط واسعة الاطلاع ـ الورقة المستورة التي تحدّث عنها عون، والقائمة على المعطيات الآتية:
ـــــ توزيع حصة فريقي النزاع في الحكومة الجديدة بنسبة 60 في المئة للموالاة و40 في المئة للمعارضة، ولكن بعد احتساب حصة خاصة وحتمية لرئيس الجمهورية. وتبعاً لهذا الحساب وفق حكومة ثلاثينية، يكون للرئيس المقبل أربعة وزراء في مقابل خمسة لعون وستة للفريق الشيعي و15 وزيراً لقوى 14 آذار التي تفقد عندئذ غالبية ثلثي المقاعد الوزارية، إلا أن المعارضة تحصل على الثلث المعطّل في الحكومة الجديدة (11 وزيراً)، وهو هدف اشترطته المعارضة لأي اتفاق سياسي مع الموالاة.
ـــــ تقاسم الحقائب السيادية مناصفة.
ـــــ عدم مجاراة بري وحزب الله عون في شرطين طلبهما ويجدانهما غير ملائمين، هما ولاية مختصرة للرئيس المقبل للجمهورية (سنتان أو أقل)، واستبعاد الحريري عن رئاسة الحكومة الجديدة إلا إذا هو شاء استبعاد نفسه، بل يرى رئيس المجلس والحزب أن من المستحسن المجيء بالحريري رئيساً للحكومة للمرحلة المقبلة.
وبحسب معلومات دبلوماسية غربية وثيقة الاطلاع، لم يستحسن أفرقاء في قوى 14 آذار بنود هذا التفاهم كما أرساه بري والحريري، والذي قاده كوشنير، فأجروا اتصالاً بالإدارة الأميركية عبر أقنية معتادة أدى إلى استعجال وزيرة الخارجية الأميركية كوندوليزا رايس مكالمة كوشنير وهو لا يزال في بيروت الخميس (6 كانون الأول)، وإبلاغه بأن وساطته تضعف قوى 14 آذار وتقوّي حزب الله، وأن الحلفاء قدّموا أقصى ما يمكن أن يقدّموه من تنازلات، وهو القبول بتعديل الدستور وانتخاب قائد الجيش رئيساً بعد تخلّيهم عن مرشحيهم.
في اليوم التالي غادر كوشنير إلى باريس، دون أن يقفل الأبواب نهائياً أمام الحل الذي هو الورقة المستورة.