strong>زينب عبد الساتر
• سوري الأصل تخلّت عنه أمه طفلاً فاتخذ من حي السلم وطناً

عند موقف حي السلم يجتمع سائقو «الفانات» حول عجوز متناسين التنافس القائم بينهم على الركاب. هو الـ «دعبول» الذي يتنقل بعربته وثيابه البالية في «الحي»، يبيع السجائر، ويروي للناس والأطفال قصصه وذكرياته

أحمد حمدي الوالي، الملقب بـ «دعبول»، سوريّ الأصل ولبنانيّ الهوى. أتى إلى لبنان قبل أكثر من 60 عاماً هارباً من حياة القهر والقمع اللذين كان يتعرض لهما يومياً في منزل عمه. يحتفظ، رغم سنواته الثمانين، ببريق في عينيه وبذاكرة قوية سجّلت كلّ ما عاصره منذ الحرب العالمية الثانية وفترة الاجتياح الاسرائيلي للبنان.
أمّه هي الزوجة الثانية لأبيه الذي توفي وكان يبلغ سنتين من العمر. اضطرت الوالدة إلى العمل خادمة في المنازل من أجل إعالته، ثم تزوّجت ثانية فرفض زوجها استقباله أو حتى إعالته.
انتقل أحمد للعيش مع أخوته من أبيه حتى بلغ السابعة من العمر، فقاموا بوضعه على باب الجامع في دمشق لأنهم «باتوا عاجزين عن إعالتي». هناك لاحظ أحد الأشخاص وجوده (يرفض ذكر اسمه لنا) فحمله إلى بيته وقام بتربيته.

من سوريا إلى لبنان

حين بلغ «دعبول» الـ 16، فوجئ بعمّه الوحيد قادماً يطالب باسترجاعه «متل كأني شي لعبة». رقّ قلبه متأمّلاً أن يجد عند عمه ما فقده من حنان الأب والأم، ولكن ظنه خاب لأن حياته لسنتين مع العم كانت مليئة بالذلّ. «كان يضربني حتى فرّق شتل»، وحين قرّر أن ينتفض على واقعه هذا جاء أصدقاؤه لينصحوه بالمغادرة إلى لبنان حيث يعملون بالأجرة. عمل بنصيحتهم، وما ان وصل إلى بيروت حتى بدأ العمل في مجال البناء «باللبناني كنت عتّال» في ورش البناء قرب تحويطة الغدير.
بعد عام قرر أن يكوّن لنفسه منزلاً، فانتقل للعيش في حي السلم ــــ المنطقة الشعبية التي تتسع للفقراء أمثاله ــــ وقرر أيضاً أن يعتزل «عمل العتالة»، فاقتنى عربة وراح يجرّها وينتقل بها في الزواريب ليبيع الدخان.
تخلّص أحمد من مهنة العتالة، لكنه لم يتخلّص من لقب «دعبول» الذي حصل عليه بسببها. فقد وصل يوماً أحد مالكي ورش البناء حيث كان يعمل، ولما لمحه طلب من عامل آخر أن يناديه قائلاً له «نادي على ذاك الدعبول» لأنه كان قصيراً جداً، ولمّا انتقل إلى حي السلم تخلى عن اسمه الحقيقي وأخذ الناس ينادونه «دعبول»، ورافقه اللقب حتى يومنا.
ليس لأحمد أصدقاء يبادلونه الزيارات، فهو نادراً ما يتواجد في منزله، لكن مسنين كثيرين يحفظون حكايا «دعبول»، ويحفظون سيرته منذ وصل إلى حي السلم. يقول الحاج محمد إنه مع قدوم «دعبول» الى المنطقة أخذت الأقاويل تدور حوله، خصوصاً أنه كان غامضاً ولم يكن يروي القصص آنذاك. ومن أبرز الأقاويل التي تناولته إنه قدم الى لبنان هربا من السلطات السورية لأنه قتل أحد الاشخاص، ونجحت هذه المقولة في إبعاد الناس عنهرغم ذلك، لم يهتم بما يقوله الناس، لكنه لا ينسى أسوأ ما قيل عنه وهو أنه «حج ولاد» ممن يعتدون على الأطفال. ولذلك كان بعض الناس يُبعدون أطفالهم عنه ما أزعجه كثيراً إلى أن بدأ بالاختلاط بالأهل، حينها بدأ الناس يتعوّدون عليه. يقول دعبول «ان هذه الاشاعة هي التي جعلتني اتقرب من الناس خصوصاً الاطفال».
يعتبر جيران دعبول أنه «زلمي فريد من نوعه». هذا ما تؤكده أم محمد، أما صاحب المنزل حيث يقطن فيلفته في دعبول «طيبة قلبه وصدقه». وتبقى العلاقة المثيرة للاهتمام بينه وبين سائقي «الفانات» الذين يعتبرونه الأب الروحي لهم.
يقول «أبو علي»، أحد السائقين في حي السلم: «أعرف الدعبول منذ كنت صغيراً، فهو لبناني أكتر مني... منذ كنت طفلا كان يروي لي ولرفاقي حكايا الحرب». ويتذكر أبو علي المرة الأولى التي التقى فيها بأحمد، اذ كان برفقة احد اصدقائه ولاحظ أن مجموعة من الفتيان يجتمعون حول رجل، وما ان اقترب حتى سمعه يسرد قصصه مع الحرب فثار فضوله الى سماع حكايا العجوز عن الاسرائيليين والقذائف.

الصهاينة في المنزل

يؤكد دعبول أنه كان بين قلائل رفضوا أن يتركوا حي السلم خلال الإجتياح الإسرائيلي لبيروت عام 1982، وقد لازم منزله حينها: «كنت أنا و15 شخصاً إضافة إلى القطط والفئران». وأكثر ما حُفر في ذاكرته هو مشهد الجنود الإسرائيليين وهم يقتحمون بيته بحثاً عن سلاح، ومع خروجهم قام أحد الجنود برميه على الأرض وأفقده وعيه، إلى أن استفاق على يد أحد المقاومين. صار هذا المقاوم يجلب له الطعام يومياً، غير آبه بالخطر المحدق من حوله «جماعة أمل كانوا يخدموني بعيونن»ومن الذكريات أيضا، مشهد قتل فلسطينيين أمامه. لقد شهد «دعبول» على «ديمقراطية القتل والتعذيب عند الاسرائيليين» كما يقول، وشهدها أكثر حين لازم منزله خلال عدوان تموز بالرغم من طلب جيرانه بأن يغادر معهم مع اشتداد القصف حيث كان جوابه «موتة وبدنا نموتها، ما عندي شي اخسروا». ويسترسل بالحديث قائلاً: «أنا سوري الأصل بس أهل الضاحية علموني المقاومة».
في كلامه إجابة بارعة على الأسئلة التي تطرح عليه، فهو عجوز تحمّل قسوة الحرب وظلم الحياة، إلا أنه يعتبر حرب تموز أعنف وأظلم الحروب «أضرب من النيو جيرسي». دعاه العديد من أبناء جيرته إلى المغادرة، لكنه أبى الرحيل. وأضاف أن أحد شباب المقاومة طلب منه مغادرة المنطقة من أجل الحفاظ على سلامته، وببساطة التعبير أجابه «يا ابني عندكن عِيَل وعم تموتو كرمالنا أنا شو عندي اخسروا؟». حينها تلتقي دمعته مع كلامه المنبثق من قلب عانى الأمرّين. يصمت قليلاً ثم يتابع: «تفو عللي بيدّعوا العروبة» لأن كلّ ما يطلبه القليل من المساعدة منهم. وينصح هؤلاء «العابثين بالوطن إسقاط غشاء الجهل عن أعينهم وأن يحيوا قلوبهم من مماتها، لأنّ أصعب ما في الحياة موت القلوب».
يعشق «دعبول» أكثر ما يعشق، لقاءاته مع الصغار، وهو يحب أن يروي لهم القصص رغم أن بعضهم يتعمد الإساءة إليه. ما إن يراه الأطفال حتى يتهافتون عليه لسماع قصصه، ورغم أنه يعيد رواية القصص نفسها، إلا أنهم لا يملّون منها ولا يسعك عند مراقبتهممتحلّقين حوله إلا ملاحظة اهتمامهم الكبير به. فذاك البريق في عينيه وطريقة كلامه يجذبان أياً كان الى الجلوس معه. لعلّ له سحراً خاصاً به، يكمن في طيبته التي تذكر كثيرين بطيبة قلوب أجدادهم، وربما ثمة خصائص أخرى عصية على التصنيف هي ما يشد الناس إليه.
السؤال الذي يوجه دائماً إلى أحمد هو: «لماذا لم تتزوج؟»، وإجابته حاضرة: «أنا تعقّدت من الزواج، امي عقدتني»... هو لم ينس إلى اليوم أن أمه تخلت عنه، ما ولّد لديه عقدة خوف من أن يتكرّر لأولاده ما حصل له، وهو غير نادم لأنه لم يتزوج، فـ «هيك احلى».



كاتم الأسرار

شعور غريب بالحميمية والطمأنينة يراودك ما إن تدخل منزل أحمد الوالي، أو «شبه المنزل» الذي يقيم فيه في حيّ السلم. هو يقيم في غرفة صغيرة تتحوّل ما إن يفتحها إلى دكان يتيح له بيع السجائر.
في غرفته سرير واحد، يشكل في النهار كنبة يجلس عليها الزوّار، ويستعيد ليلاً مهمته الطبيعية: النوم. في الغرفة أيضاً تلفاز قديم وبجانبه راديو يستمع عبره إلى أغاني أم كلثوم وعبد الوهاب.
تعمّ منزل دعبول الفوضى، غير أن أكثر ما يلفت النظر فيه كثرة الصحون وأوعية الطعام التي يحملها إليه جيرانه، خصوصاً أنه يفتقر إلى الثلاجة وفرن الغاز. ورغم هذه الحالة، يصف دعبول منزله بكاتم أسراره «رغم صغره فأنا لن أغادره إلا عند مماتي».