رنا حايك
في مخيم الضبية للاجئين الفلسطينيين تختفـي الصـورة النمطيـة المعروفـة عـن المخيمات... تغيب حواجز التفتيش الحزبية عن المداخل، كما تغيب فلسطين عن الجدران. هناك، الصورة لبنانية، والأعلام التي يلوّنها الأطفال لبنانية... بيد رجال الجيش اللبناني

على تلّة محاذية لطريق الضبية العام تنتشر بيوت مخيم فلسطيني تظلّل أسطح منازله دوالي العنب.
نحو 525 بيتاً تؤوي 5 آلاف نسمة، منها 250 أسرة لبنانية نازحة من مناطق بشري وزغرتا و100 أسرة فلسطينية ممن طالها مرسوم التجنيس في عهد الوزير ميشال المر و175 أسرة لا تزال فلسطينية. هم «لبنانيون على أرض فلسطينية»، كما تقول مياسة، المسؤولة في جمعية «هيئة الدعم التنموي» في المخيم.
تستقبل مياسة أعضاء جمعية «ذاكرة» الذين يجوبون المخيمات الفلسطينية منذ عام. يوّزعون على أطفالها كاميرات ليعبّروا من خلالها عن حياتهم ومحيطهم في المخيم. قبل توزيع الكاميرات، يدعو مصوّر وكالة الصحافة الفرنسية ورئيس الجمعية رمزي حيدر، الأطفال ليرسموا واقعهم. يتحلّق حوله 15 طفلاً يكسر هندامهم الصورة النمطية لأطفال المخيمات. تأتي ألوانهم الزاهية وريشتهم الرشيقة لتكرّس أكثر فأكثر مشهداً مغايراً. ففي الضبية، رسم ميشال شجرة الميلاد ورسمت نيكول علم لبنان وثكنة للجيش اللبناني.
غابت فلسطين عن الورق كما تغيب عن شوارع مخيم الضبية النظيفة ووجدان أهله. انسحبت بهدوء أمام ألوان أطفاله المشرقة وبقيت محبوسة في الورق المكدس لرسومات أطفال المخيمات الأخرى في أحد أدراج مكتب جمعية «ذاكرة».
أما في مخيم الضبية، فكل التفاصيل توسع الهوة بين صورة المخيم النمطية والواقع.
هي قرية. فيها أمان القرى اللبنانية وسكونها، فيها أشجار «البابايا» والمرأة المسنة ترتب أغصان البقدونس على مصطبة بيتها الحجري. في المخيم ملحمة زيّنها صاحبها بشجرة الميلاد احتفاء بحلول العيد، وفيه شرفات تتخلل غسيلها المنشور أحواض الزهور الملونة. فيه مستوعبات لرمي القمامة على الأرصفة ويافطات زرقاء غابت عن معظم شوارع المدينة بيروت تقسم الأحياء إلى أرقام وأسماء.
تختصر مياسة وضع المخيم الخاص: «فلسطين موجودة فقط على بطاقات الهوية لبعض السكان هنا. هي ذكرى مدفونة نمتنع عن استحضارها شعارات لقضية أو لحزب من أحزابها على جدران المخيم كما نرفض الغوص في تفاصيلها أو الإحتفاء بتواريخها المهمة أو حتى المشاركة في التظاهرات التي تخصها. بعض السكان هنا يناصرون القوات اللبنانية لكن الأغلبية عونيون. نهتم بالشأن اللبناني أكثرتتكلم بفخر عن اهتمام السكان بتعليم أطفالهم واعتباره أولوية، وعن اهتمامهم بالنظافة والترتيب رغم فقر بعضهم ممن يعملون في الحدادة وصيد السمك، وعن إصرارهم على احترام القانون، إذ أنهم «المخيم الوحيد في لبنان الذي يسدّد رسوم البلدية من ماء وكهرباء والمخيم الوحيد الذي يخلو من عناصر الأحزاب الفلسطينية ويخلو مدخله من حواجز التفتيش بينما تتردد عليه قوات الأمن اللبنانية».
يتعايش الأهالي في مخيم الضبية بسلام. يتساءل المرء إن كان لجملة مياسة التي أصرّت عليها دوراً في توفير ذلك الإنسجام: «جميع الأهالي مسيحيون».
تقاطعها زميلتها في الجمعية منى لتخبرنا أنه «منذ فترة، جاءت محجبتان وحاولتا العيش هنا لكنهما ما لبثتا أن غادرتا، فالجو لا يلائمهما».
أنشئ المخيم على أرض استأجرتها «الأونروا» عام 1958 من دير مار يوسف البرج، وتحضر الجمعيات المسيحية كـ «كاريتاس» وغيرها بكثافة فيه، بينما تلعب الكنيسة دوراً مهماً في تنظيم النشاطات الشبابية في المخيم. تؤكد مياسة أنه لو كان المخيم تحت سلطة «الأونروا» فقط لكان الوضع مزرياً كما هو في المخيمات الأخرى.
إلا أن الحياة ليست زهرية في مخيم الضبية، فـ «حنة»، المرأة الثمانينية، ما زالت تستيقظ في السادسة صباحاً، تقصد أحد البساتين المجاورة للمخيم لتعمل مياومة لقاء 5 آلاف ليرة في اليوم وتقطف بعض الفاكهة ثم تدور على منازل سكان المخيم طوال النهار تحاول بيعها. تربي الدجاج وتبيع البيض. لا تتذكر فلسطين، لكنها تتذكر أهلها اللي «قتلتهن إسرائيل بعمارة أبو عكر ببيروت». أما المفتاح الذي في رقبتها، فتجيب حين نسألها عنه بأنه لمنزلها الكائن في المخيم وليس لذلك البيت الذي هجرته في فلسطين. مفتاح بيت ساعدتها الجمعيات الأهلية الناشطة في المخيم على ترميمه، تلك الجمعيات التي ينذر أكرم نقولا موسى بأنه سيقوم بحملة في المخيم لإقفالها.
فرغم اعتراف أكرم بأن مخيم الضبية الذي يقطنه هو «ملك جمال المخيمات»، إلا أن فحص المياه الذي أجراه لمياه المخيم، واكتشافه أنها كلسية وغير صالحة للإستخدام يؤرقه. كذلك تفعل معاناته الطويلة مع المرض التي جعلته يكتشف القصور الذي يشكو منه بقية السكان أيضاً في مجال الخدمات الإستشفائية والطبيةففي المخيم عيادة تؤمن إجراء فحوصات الدم لكنها تعجز عن تأمين الدواء. فيه مستوصف يصفون فيه «البانادول" دواء موحداً لمعظم أنواع الأوجاع، وفيه طبيب يعجز البعض عن دفع أجرته رغم أنها رمزية قد لا تتجاوز الخمسة آلاف ليرة.
يعزو أكرم هذا القصور إلى تركز الخدمات في مخيمات بيروت، «فمن غير المجدي افتتاح مستشفى في مخيم غير مكتظ»، لذا يقصد المرضى من المخيم بيروت للعلاج في مستشفى حيفا «المقرفة»، كما يصفها، والتي خضع فيها لأربع عمليات جراحية.
يتمدّد أكرم على سريره في مواجهة التلفزيون. القناة الفضائية الفلسطينية تبث صورًا من بيت لحم والقدس. يتأملها بحنين. فقد زار أكرم فلسطين نحو خمس مرّات حين سيطر الجيش الإسرائيلي عام 1982 على الحدود في الناقورة. ينظر أكرم إلى الصليب المعلق على الحائط قبالته، ويعجز عن التكتم على رأيه: «المسيحيون مستبعدون دائماً. إستبعدوا من الحكم في مناطق الحكم الذاتي في فلسطين، واستبعدوا في العراق، والموّال ذاته يحدث الآن في لبنان. إنسحابهم هذا سيدوم ووجهتهم النهائية هي الغرب».
يشكّل مخيم الضبية حالة إستثنائية من بين المخيمات. مخيّم «ملبنن» إلى أقصى الحدود، يشعر أهله بأنهم لن يستطيعوا التقدّم إذا لم يخففوا من الإرث الثقيل الذي يحملونه، فيبدأون بالتخلص من الذاكرة، وينتهون بتجاهل أحلام حول استعادة أرض ما زالت تؤرق حياة الكثيرين غيرهم.
سرقوا الصندوق يا محمد...

رغم التجاعيد التي تغزو وجهها، والأعوام الثمانين التي ترهق جسدها، والرحيل المستمر الذي عاشته منذ سنوات النكبة الأولى، لا تزال جميلة موسى تحتفظ بنضارة الوجه والذاكرة. قصدت لبنان مع ولديها وزوجها من الجليل لكي «يقعدولن شي شهر تتروق الحالة». إلا أن الحالة استمرت على حالها حتى اليوم...
لم تفقد جميلة ابتسامتها الساخرة من ضروب الزمن. أضاعت مفتاح منزلها في فلسطين بعد أن تنقلت في مختلف أنحاء لبنان. تستحضر جملة «سرقوا الصندوق يا محمد لكن مفتاحه معايا»، من أغنية سيد درويش، لتعبّر عن عبثية الإحتفاظ بذلك المفتاح.
حين وصلت إلى لبنان، أسعفتها أموالها هي وأسرتها لتدبير أمورهم، فقد كانت الليرة الفلسطينية حينها بـ12 ليرة لبنانية. جابت جميلة مختلف المناطق اللبنانية: من زحلة إلى عنجر إلى القرعون حتى جلّ الديب وفي النهاية حطّت الأسرة رحالها في مخيم الضبية. زوجها كان كهربائياً. هو من أضاء التاج على رأس تمثال سيدة لبنان. «ما في متل لبنان بالدنيا» تقول، لكن فلسطين ما زالت وجعاً ينخر في الذاكرة. زارت جميلة أهلها في فلسطين عام 1982 بتصريح من الجيش الإسرائيلي في الناقورة. لكنها فقدت الإتصال بهم منذ ذلك الوقت. تعذّر الإتصال بهم هو أكثر ما يؤلمها. فحتى الإتصال الهاتفي غير متاح لانقطاع الخطوط بين البلدين.
تسهر جميلة أمام التلفزيون، تسترجع ذكريات صباها في مشاهد المناطق التي تبثها الفضائية الفلسطينية، وتبكي شوقها لأهلها ولوطنها رغم عشقها للبنان. هذا البلد الذي لطالما أحست في مختلف مناطقه بتآلف الناس المنتمين لطوائف مختلفة مع بعضهم البعض قبل الحرب. فهذه الحساسيات الطائفية لم تظهر، برأيها، إلا بعد الحرب الأهلية. في عيون جميلة بريق يشي بحياة غزاها الحزن وقطّع أوصالها الترحال وأدماها وجع الفراق.



بحار يونانيرست سفينته في الضبية

ليست عائلة قسطنطينيوس التي تقطن مخيم الضبية لبنانية. كذلك ليست فلسطينية. تعيش عفيفة مخايل عطية قسطنطينيوس في ذلك المنزل مع أولادها من زوجها اليوناني.
هي من صور، تتكلم بلكنة فلسطينية أصيلة عن زوجها المتوفي الذي كان يعمل نجار باطون. كان والده يعمل بحاراً في ميناء حيفا. وذات يوم، غيّرت إحدى البواخر مسارها، وبدل أن تجوب البحار وتنقل البضائع والسائحين، نقلت مهاجرين فلسطينيين قصدوا شواطئ الأمان في لبنان. غادر الأب معهم واستقرّ مع عائلته في مخيم الضبية.
إلى ذلك المخيم، رافقت صبية من مدينة صور أختها لزيارة بعض الأصدقاء، فكان النصيب الذي ألّف أسرة يونانية تعيش حتى اليوم في مخيم الضبية.
تربّي عفيفة اليوم أبناءها وأحفادها ويقتصر عالمها على هذه البيئة المختلطة. نادراً ما تزور الجنوب، في المقابل، تنتظر زيارات إبنها الذي ورث عن جدٍ لم يعرفه مهنة البحار، ويعمل حالياً على أحد اليخوت في مارينا- الضبية.