إبراهيم الأمين
يبدو أن الأزمة الداخلية قابلة لمزيد من التأزم. والوضع لا يرتبط فقط بالتعنت القائم من هنا أو هناك، بقدر ما يتصل بعودة النزاع إلى النقطة التي انطلق منها قبل أكثر من عام بقليل، يوم شنّت المعارضة هجومها على حكومة الرئيس فؤاد السنيورة بعد استقالة وزراء أمل وحزب الله والوزير يعقوب الصراف، وبدء اعتصام المعارضة المستمر في وسط بيروت، والعقدة هي هي: توازن القرار داخل مجلس الوزراء. ورغم أن تطورات داخلية كثيرة دفعت بفريق 14 آذار إلى التراجع عن خيار النصف زائداً واحداً لانتخاب رئيس من طرف واحد، فإن التطور الذي استجد أخيراً كان في عودة النائب سعد الحريري عن موافقته على تأليف حكومة وحدة وطنية وفق توزيع نسبي للمقاعد يعطي المعارضة عملياً الثلث المعطل، وهو الأمر الذي كان محط مراجعة من كل المعنيين بالمفاوضات والاتصالات الجارية لبنانياً وعربياً ودولياً.
في الوقائع التي باتت معروفة، أن الفرنسيين أداروا حواراً حول التسوية من جزءين، واحد في بيروت بين الفريقين المتنازعين، وآخر في دمشق مع القيادة السورية. وكان التقاطع عند الورقة التي كتبت عن بنود الاتفاق الممكن، والتي تناولت الاتفاق على تعديل الدستور وانتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً بالإجماع، والاتفاق على تأليف حكومة وحدة وطنية يترك للكتل النيابية أن تقرر من ترشح لرئاستها، ما يعني أنه يمكن أن يصل إلى رئاسة الحكومة شخص غير توافقي، وإقرار سريع لقانون الانتخاب العادل والمنصف، علماً بأن هذا الاتفاق لم تُكتب فيه تفاصيل محددة حيال طريقة تأليف الحكومة وحيال حجم الدائرة الانتخابية، وهو الأمر الذي استدعى المزيد من الاتصالات.
كان الفرنسيون يجرون مفاوضات قاسية مع السوريين في هذه النقطة، وهم توصلوا بواسطة المدير العام للرئاسة، كلود غيان، إلى الاتفاق نفسه الذي حمله الوزير برنار كوشنير إلى اجتماعيه المطولين مع الرئيس نبيه بري والنائب سعد الحريري. لكن إعادة قراءة الموقف في ضوء التفاهم المكتوب، أظهر الورقة حمّالة لتفسيرات مختلفة، وهو نقاش جرى أصلاً بين قوى المعارضة نفسها. ويوم أعلن العماد ميشال عون معارضته تسوية لا تحمل نتائج واضحة إزاء المطالب التي أوردها في مبادرته الشهيرة، فهو تسلح عملياً بالموقف من الورقة التي ظلت صياغتها ملتبسة. وعندما حاول الفرنسيون الضغط على القيادة السورية وعلى قوى المعارضة في لبنان، كان الجواب المشترك من التيار الوطني الحر وحزب الله أن الاتفاق بحاجة إلى توضيح بمعزل عن التحفظات الأخرى أو عن شروط العماد عون الإضافية المتعلقة بمدة ولاية العماد سليمان أو بشخصية رئيس الحكومة المقبلة.
وفي مراجعة لم تستغرق أياماً كثيرة، تبين أن الرئيس بري، كما القيادة السورية، لا يملكان تفسيراً قاطعاً بأن الحريري تعهد حكومة يكون فيها للمعارضة الثلث الضامن على الأقل، كما أنه لم يجزم بأن قانون الانتخاب الجديد سوف يكون على أساس القضاء، وهو الأمر الذي اقتنع به بري، كما اقتنعت به القيادة السورية. وعندما عاد الفرنسيون للضغط على فريق المعارضة أو على دمشق لإمرار التعديل الدستوري، فوجئ الفرنسيون بأن الموقف يرتبط هذه المرة بالقوى الداخلية، وخصوصاً بالعماد عون وبحزب الله، وأن ما تقوله دمشق واضح حيال استعدادها لدعم التسوية، لكنها غير قادرة على فرض تسوية على قوى حليفة لها لم تحصل على ما هو منطقي، ما دفع بالفرنسيين إلى البحث من جديد في كيفية ترجمة التفاهم العام إلى أوراق تفصيلية، أي ما يجعل الكلام على التوازن النسبي داخل الحكومة مفصلاً بحصص كل من الفريقين وبتحديد القضاء دائرةً انتخابية في كل لبنان.
لكن الذي حصل هو أن الحريري الذي قال بري إنه كان متفهماً وقال شفهياً ما يحقق الغرض، لم يكن جاهزاً لكتابة الأمر، بل إنه عندما ناقش الأمر مع حلفاء له في لبنان ومع عواصم خارجية معنية، بينها الرياض وواشنطن، وجد أنه مضطر لإعلان تحفظ إضافي، وبدل أن يوفر لبري ورقة ضاغطة على حزب الله وعون، بادر إلى منحهما تسهيلات لتثبيت موقفهما بإعلانه علناً أنه لم يبحث بأمر الحكومة أو قانون الانتخاب، وأنه لن يبحث في هذه الأمور إلا بعد حصول التعديل الدستوري وانتخاب العماد سليمان رئيساً للجمهورية.
وعند هذه النقطة، وجد الرئيس بري نفسه في وضعية المخدوع الذي لا يمكنه الموافقة على مواصلة هذا النوع من التفاوض، كما أنه سلم لعون وحزب الله بإدارة التفاوض بطريقة ثانية، ما حتم التوصل إلى صيغة جعلت التفاوض السياسي ينقل إلى العماد عون، وفي جيبه الورقة الموضحة للمطالب التي يجري النقاش على أساسها، فيما تلقت دمشق توضيحات من حزب الله وأمل بأنه لا يمكن السير بالورقة الفرنسية الملتبسة، وهو ما جعل دمشق لاحقاً تبلغ العاصمة الفرنسية بعدم السير بالاتفاق ما لم يتحقق المطلبان البسيطان، وأنه ليس هناك إمكان لممارسة ضغوط إضافية على قوى المعارضة.
عند هذه النقطة برز تبدل إضافي في موقف قوى 14 آذار، تمثل في العودة إلى رفض منح المعارضة الثلث المعطل، وأن تنازلها عن حصة الثلثين إنما تقبل بأن تقدمه لرئيس الجمهورية. وجاء اقتراح الحريري للرئيس بري بأن تؤلف الحكومة وفق قاعدة 10 وزراء للمعارضة و 14 وزيراً للموالاة وستة وزراء لرئيس الجمهورية، وهو الأمر الذي حاول موالون إقناع العماد سليمان بتبنيه والضغط على المعارضة من زاوية أن الفراغ سوف يؤدي إلى تراجعات في الوضع الأمني. وهو الأمر الذي لم يسر به قائد الجيش كاملاً، فهو حذر من الوضع الأمني، لكنه لم يتورط في التفاصيل الأخرى على اعتبار أنه رفض أن تناقشه المعارضة في التزامات مسبقة حول تركيبة الحكومة وقانون الانتخابات.
لكن المشاورات التي أعادت الأمور إلى نقطة الصفر، أظهرت أن الفريقين عند الموقف نفسه. وقال ركن بارز في 14 آذار إنه لا يمكن منح المعارضة الثلث المعطل، وإلا «نكن قد خسرنا على كل الجبهات»، فيما قررت المعارضة بصورة حاسمة أنه لا مجال لأي نوع من التفاهم قبل إقرار فريق 14 آذار بمنح المعارضة الثلث الضامن وبإقرار رسمي بأن القضاء هو الدائرة الانتخابية.
عود على بدء!