أنطون سعد
ترى أكثر من شخصية روحية وسياسية مخضرمة أن السياسة المتّبعة تجاه سوريا التي انتهجها فريق الأكثرية منذ تظاهرة الرابع عشر من آذار 2005، كانت فوق طاقة لبنان وفوق قدرته على الاحتمال، وكان فيها مقدار كبير من المبالغة. إلا أن هذه الشخصيات تستدرك موضّحة أنها لا تعني أن من السهل معرفة التعاطي مع الحكم القائم في دمشق أياً تكن هويته وطائفته ومنطلقاته الفكرية والاجتماعية والإيديولوجية. إذ إن الثابت بين الأنظمة المتعاقبة على حكم سوريا هو الزاوية التي تنظر منها إلى الكيان اللبناني، ودوره وعلاقته مع دمشق. وقد تراوحت طموحات هذه الأنظمة حيال لبنان، خلال الأعوام الأربعة والستين التي تلت استقلاله، بين حدّين: ضمه إلى سوريا أو جعله جرماً يدور في فلكها، وكل ستاتيكو لبناني خارج هذين الحدّين يندرج في خانة التآمر عليها أو التهاون في القضايا العربية.
أما الفارق بين هذه الأنظمة في طريقة تعاطي كل منها مع لبنان، فهو، بحسب إحدى هذه الشخصيات، «ناتج بالدرجة الأولى عن القدرات الذاتية لكل نظام قام في دمشق، وعن مدى إمساكه بالوضع الداخلي في سوريا، وبالدرجة الثانية عن تأثيره على الواقع السياسي والطائفي في لبنان، لأن كائناً من كان متربعاً على الحكم في سوريا سيجد دائماً على الأراضي اللبنانية من يتفاعل معه سياسياً أو وجدانياً أو قومياً أو دينياً، ويمكّنه بطريقة أو بأخرى من أن يكون له كلمة في عملية تقرير شؤون اللبنانيين».
هذا الواقع هو بالتأكيد ما كان يدفع البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير بين عامي 1990 و2005 إلى إرفاق دعوته القوات السورية إلى الخروج من لبنان دائماً بالتمني بأن يجري الانسحاب برضى سوريا وبتفاهم معها، نظراً إلى معرفته بقدرتها على إلحاق الضرر به في كل حين. فسيد بكركي، من خلال معايشته لأزمة 1958 كأمين للسر في البطريركية المارونية، واجتماعه بالرئيس ناظم قدسي سنة 1962 وبالرئيس حافظ الأسد سنة 1975، ومعايشته لفصول الأزمة اللبنانية، ولا سيما في بداية حكم الرئيس أمين الجميل، وأثناء المدة التي قضتها في بعبدا الحكومة الانتقالية برئاسة العماد ميشال عون، كوّن فكرة واضحة عن نظرة سوريا إلى لبنان، وخصوصاً عندما يميل الحكم في بيروت إلى رفع التحدي الذي تمثّله سوريا على أمنه وسيادته واستقراره.
بحسب الشخصيات المخضرمة، هذا هو جوهر الأزمة القائمة حالياً في البلاد، والذي يعبّر عنه الوزير السابق جان عبيد بقوله إن لبنان لن يستفيق يوماً ويجد أن سويسرا باتت جارته. إذ إن الأكثرية النيابية، وبخاصة عبر رموزها الذين كانوا لأعوام خلت ركائز الحكم السوري في لبنان وأكثر المستفيدين منه، بالغت، خلال العامين المنصرمين، في استفزاز دمشق. لذلك، فإن هذه الأخيرة ترى أن الفرصة حانت لرد الصاع صاعَين، فلم تكتف بترشيح الأكثرية لقائد الجيش العماد ميشال سليمان الذي لا يمثّل مجيئه تحدياً لها، بل مضت في سياسة الانتقام من معارضيها الذين باتوا يقدمون التراجع تلو الآخر، وآخرها قبول انتخاب رئيس الجمهورية يوم الاثنين من دون تعديل دستوري يمر في الحكومة، بعدما كانوا قد أمضوا سنتين لا يأبهون بمعارضة حلفائها واستقالتهم من الحكومة.
وتضيف هذه الشخصيات، إلى دور سوريا في تأخير قيام التسوية، التنازع الدائم على النفوذ بين القيادات السياسية للطوائف اللبنانية الذي يوفّر، في الوقت نفسه، منفذاً لتغلغل سوريا ولاستجداء بعض اللبنانيين لتدخلها، وكذلك الشعور الديني والطائفي المتجذّر لدى غالبية اللبنانيين، وطموح بعض الشخصيات للسيطرة.
أما الكلام عن لائحة مطالب وحصص المعارضة والموالاة ورئيس الجمهورية في الحكومة العتيدة، فتفاصيل إلهاء ومعركة على النفوذ في العهد المقبل. إذ إن المعارضة تسعى لترويكا من حزب الله والمستقبل والتيار الوطني الحر، فيما الأكثرية تحبذ استمرار الدويكا بين رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس كتلة نواب المستقبل سعد الدين الحريري، على أن يُرتكز تارة على رئيس الجمهورية العتيد وطوراً على البطريركية المارونية، تأميناً للتغطية المسيحية.
إلا أن المخرج للأزمة القائمة يبقى متوافراً من خلال حل كان يراهن عليه أحد الصحافيين الكبار، وهو قيام حركة شهابية جديدة تستند إلى رؤية تأخذ بالاعتبار هواجس الطوائف اللبنانية، وتعزّز مفهوم الدولة في لبنان. لكنّ نجاح هذه التجربة يبقى مرتبطاً بأمرين: قبول السنّة بمفهوم المشاركة الحقيقية، ومبادرة شيعية على مستوى تحصين لبنان، عبر رسم الحدود، وتبادل السفارات، وبلورة علاقات صحية مع سوريا.